د. عباس عبد السادة
الأنسنة ظاهرة أدبية يوظفها الأدباء للتعبير عن مشاعرهم عبر خلع صفات الإنسان على أشياء أُخر، يحاكون فيها واقعا يؤلمهم، أو شوقا يؤرقهم، او غير ذلك من المشاعر.
والشاعر حيدر خشان يؤنسن الوطن في قصيدته (على مشارف الوطن)، ونجد أن عنوان القصيدة خالٍ من الأنسنة إذ جعل الشاعر فيه نفسه واقفا على مشارف وطنه ينظر همومه، ويخاطبه عن فعل ذئاب يسمون إخوة، وبالرغم من أن الشاعر يعيش في هذا الوطن ويقاسي آلامه، ويتألم إحساسه المرهف لما يمر به، لكنه عبّر بـ(على مشارف) وكأنه يقف متفرجا من خارجه، ولعله هنا يوحي بتحسره على عجزه عن تغيير شيء من حال الوطن المزري.
تبدأ الأنسنة من البيت الأول إذ يقول:
إلى مُدُنٍ قدْ أنكَرَتْكَ مُشَرَّدا
فجازيتَها في ساحَةِ الحَرْبِ والرَّدى
فهو هاهنا يصور الوطن مشردا كريما ينكره إخوته، لكنه يحسن إليهم عند الوغى، متناسيا جراحه، والأنسنة قد تكون بالاتجاه السلبي الذي يصف فيه الأديب الشيء المؤنسن بأوصاف السوء التي يفعلها الإنسان، وقد تكون بالاتجاه الإيجابي الذي تكون فيه الصفات الإنسانية كريمة ممدوحة، وقد جاءت أنسنة الوطن في هذا النص بالاتجاه الإيجابي الممدوح، ويلحظ أن الشاعر عبر عن الآخرين ب(مدن) ولو نظرنا للأنسنة من جانب المدح الذي ورد في النص، فإن في أنسنة الوطن وتجنيب إخوته الأنسنة إيحاءً بتجريدهم من صفات الإنسانية التي اتصف بها العراق، ونأى عنها جواره.
وعندما أنسنها في البيت الثالث الذي يقول:
وتُهدي لعينَيها الصَّباح مُجَلَّلا
وقبلةَ مفتونٍ لخدِّ من النَّدى
فقد جعلها أنثى يهدي الفارس البطل لعينيها الشرف والنصر مجسدا إياه بالصباح، ويعبر عن شدة حب العراق- وهو رمز للعراقيين النجباء- لإخوته حتى كأنه مفتون يهدي حبيبته قبلة على خدها الموصوف بأنه من الندى.
وقد جسد الشاعر في أنسنته صفات الشهامة والفروسية التي يكون عليها النبلاء وبها اشتهر أشراف العرب، ليقول النص إن عروبة العراق هي عروبة الأجداد النبلاء، وللآخرين عروبة الأعراب الأجلاف، فيقول:
مواطنُ غربانٍ ،أضاعَكَ بيدقٌ
لهم،حين خانوا قلبَكَ المتعبِّدا
نبوءاتكَ الكبرى على الماء إذ رسَتْ
وإن أشركوا كنتَ الوحيد الموحِّدا !
تلملمُ من هذا المُحال وذينك ال
مُحالات، كي تنشي من الدمع موقدا
لتُحرقَ أحقادا، إلى الآن ما رأتْ
سواك نبيَّاً يطفئ ُ النار أو هدى
وما ردَّهم إلا سلاحُك قابضا
على ساتر ال»هيهاتَ» إنْ شرُّهم بدا
فها هو العراق نبي متعبد يريد أن يجمع قومه على الحق، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، لكنه يجابه بالخيانة والأحقاد وإشهار سيف الشر، ليسترجع النص من التاريخ مواقف النبي ص وآله، وما لاقاه من قريش وما لف لفها، فكأني به يصور العراق وريث محمد تحيطه ثعالب الصحراء، وكل يرث قدوته.
وما يلبث الشاعر أن يؤنسن الوطن برمز تراثي آخر عانى ممن حوله حتى قال:
عذل العواذل حول قلبي التائه
وهوى الأحبة منه في سودائه
يشكو الملام إلى اللوائم حره
ويصد حين يلمن عن برحائه
ذلك هو المتنبي، الذي يستعيره الشاعر متمثلا بشطره الشهير: ((أنا الطائر المحكي والآخر الصدى))، إذ يقول حيدر خشان:
لمحضِ نعيبٍ لم يُعِرْ سمعَ قلبهِ
«هو الطائرُ المحكيُّ والآخرُ الصَّدى»
ليعبر عن عدم اكتراث العراق بنعيب غربان نكران الجميل، وقد عبر به عن الوطن، مستبدلا بذلك أنا المتنبي.
وفي البيتين العاشر والحادي عشر يستبدل الشاعر معادلة الأنسنة ليجعل من الوطن ديار القمح، والهدوء المر، ويؤنسن بلدان الأعراب، مع قلب معادلة الأنسنة لأنسنة السوء إذ يقول:
وكنتَ ديارَ القمحِ وقتَ حصادهم
وباعوك بعد القحط للقحط أجردا
وأنت الهدوء المُرُّ أنْ هُزَّ شاطئ
ضحوكٌ،،وبالضَّيم العراقيِّ أزبدا
ولا تخلو حكاية القمح والقحط من إيحاء لقصة النبي يوسف ع وغدر الإخوة.
ويعود لأنسنة الوطن، مع أنسنة العربان، لكن الوطن إنسان التضحية والكرم ، و الآخرون أنسنة الغدر والشر، فيقول:
إذا جاعَ طفلٌ في الخليج فطمْتَنا
وأطعمتَهُ من خير زادٍ لتُحْمَدا
ولكنهم قد أدمنوك بذبحِهم
وسِفْرٍ يطولُ الشِّعرُ فيه لأسرُدا
تحاشَوك حين اغتاظَ صبرُك مرة
وللآن منها يظهرون التودّدا
تُعلِّمُهم إن فارَ تنور موعد ال
منيَاتِ،والكفُّ الجنوبيّ هدَّدا
محا بالدما ذنبَ السياسات أعصرا
من الوهم والحُلْم العروبيّ والفدا
وهو هنا يجعل وطنه الكريم الذي يقتطع اللقمة من أفواه أبنائه ليطعم أبناء جاره الذي يشحذ خنجره ليذبح كف السخاء العراقي، وهو أيضا الحليم الذي يطيل صبره على الأذى لكنه ذو غضبة فتاكة قيل عنها ((احذر غضبة الحليم)).
وهو نوح قومه الذي يحذرهم فورة التنور كي لا يغرقوا بطوفان غدرهم، وما من سفينة لنوح العراق فقد خرقها إخوته، لكن قلبه السفينة التي لا تغرق مهما طعنتها خناجر الغدر العروبي الذي يحلم ويحلم ويسقط في أول اختبار في اليقظة.
ويختم الشاعر قصيدته بذكرى بطولات أبناء العراق في أراضي العروبة، وخذلان الأعراب لها، فيقول:
إلى الآن في سيناء «خوذات» ولْدِك
المغيثين، خوفَ القدس أن يتهودا
إلى الآن هاهم يسكُرون بنفطنا
وصاحوا لإسرائيلهم أنْ تعربدا
وأنت نزفت الأهل شيباً وفتيةً
وديدنك المعتادُ أن تتحشدا
وعَتْها قلوبُ المرجفين فقيل لي
(لكل امرئ من دهره ما تعوّدا )
ولم يغفل الشاعر الإشارة إلى بطولات أبناء الحشد ورثة خوذات الشرف التي هزت إسرائيل، عندما قال
وديدنك المعتاد أن تتحشدا
ليوحي فعل التحشد بالحشد المقدس الذي يدفع عن الأعراب خطر الأعراب فينزف شيبا وشبابا لينعم الأعراب آمنين من غدرهم أنفسهم.