أمير الحلو
هناك أسماء وشخصيات (تحلم) برؤيتها والتعرف عليها،فأذا بك تزاملها وتصادقها،ومن بين هذه الشخصيات الفنان الكبير المرحوم منير بشير فقد كنت معجباً بعزفه على العود سواء بمصاحبته للفرقة الموسيقية في الاذاعة أو بشكل منفرد وقد غادر العراق فترة طويلة،ولكني تعرفت عليه في بداية السبعينيات عندما جرى تعيينه مديرا عاما للشؤون الموسيقية،وقد ربطتنا علاقة صداقة ومحبة حميمة،إذ كنت أزوره بمكتبه باستمرار وأجده حريصاً على أرشفة كل ما يكتب عنه،ولا أدري كيف أقنعني يوما بأن أتعلم عزف العود،فسارعت الى شراء عود وأخذ يأتي الى غرفتي في الدوام المسائي حيث يسود الهدوء،ليمسك بأصابعي ويقول هذا(الفا)وهذي(المي)ويظهر التقسيمات الموجودة على الاصابع طبيعياً وكأنها مصممة للعزف على أوتار العود حسب (مسلسل)دو رو مي فاصو لاسي دو،وقد بذل جهداً مضنياً لتعليمي مبادئ العزف ولكني كنت تلميذا فاشلا وقد ألقيت المسؤولية على نفسي وقلت له يا أبا سعد أن مثلنا مثل أستاذ جامعي كبير يعلم تلميذاً حروف الابجدية في الصف الاول الابتدائي في حين أن هذه المهمة يؤديها معلم بسيط يعرف طرق وأساليب تعليم القراءة والكتابة كما أن عامل العمر له أهمية في التعليم وقديماً مثل يقول(التعلم في الكبر كالنقش على الحجر) فأصابعي ليست مرنة مثل الطفل والصبي والشاب الذي يستطيع تعلم العزف الموسيقي بسهولة،لذلك فدعنا (نعزف)عن العزف ونستمر بعلاقة الصداقة التي تربطنا واستماعي الى جديدك ونشاطاتك باستمرار.
كان انساناً رائعا و ودوداً ولكنه،وله الحق في ذلك ،يعتز كثيراً بنفسه وقد سألني يوماً:لو عقد مؤتمر كبير ما في بغداد وطلب منك أن تنتقي هدايا للشخصيات التي تحضر المؤتمر وتكون معبرة عن روح العراق وتراثه وفنه فماذا تقدم لهم؟،فكرت قليلا وقلت أقدم لهم مصوغات فضية تمثل معالم عراقية شاخصة كالنخلة،أو نماذج مقلدة من آثار عراقية كمسلة حمورابي أو أسد بابل أو أميرة الحضر…أجابني بسرعة: أخالفك الرأي فأن أثمن هدية تقدمها هي أسطوانة تحتوي على معزوفات منير بشير،فهي تعبر عن عظمة العراق وقدرة فنانيه وتحمل معاني تراثية وتاريخية وفنية كبيرة .
أهداني مجموعة من أسطواناته (ما زلت احتفظ بها)، ومع اقتناعي بالفكرة نقلتها الى مسؤول ثقافي كبير وجدت منه تقبلا كبيراً، بل أنه عمل على جمع كل أسطوانات منير بشير بمغلف كبير وأنيق عليه صورة لنخلة عراقية وكتبت على ظهره أسماء المعزوفات (البشيرية)،وبالفعل وجدنا تقبلا كبيراً لهذه الهدية الثمينة وخصوصاً ممن يقدرون ويتذوقون الفن الشرقي وعزف العود.
من المعروف أن عائلة (بشير) فنية فالى جانب منير برز شقيقاه جميل وفكري بشير،وكان الناس يخلقون تنافساً ومقارنة بين جميل ومنير ولكن يبقى لكل منهما أسلوبه وذوقه ولا يؤثروجودهما معاً على الساحة الفنية العراقية.
الكتابة عن منير بشير تستحق حلقة ثانية بعد هذه ،ولكني أريد (قفل) هذه الحلقة بحادثة تشير الى سرعة بديهة الفنان منير بشير،فقد كنت أجلس معه عندما كان وفد أجنبي يجري لقاء معه ويترجم له المرحوم مازن الزهاوي،وقد أراد الزهاوي أن يظهر معرفته بمنير فقال للوفد أن أشقاءه(الاربعة)موسيقيون جميعاً،وبدأ بعد الاسماء فقال منير وجميل وفكري،وتوقف عند الرابع فسأل الاستاذ منير عن اسم أخيه الرابع،فأجابه بهدوء:أنا أعلم أننا ثلاثة أخوة ،ومثلما خلقت لي أخاً رابعاً فعليك أن تجد له إسماً!