نهر الفرات ومحاولة الوصول لاتفاقيات دائمية مع دول الجوار

 عبد اللطيف جمال رشيد

نهر الفرات تكوين مائي قديم ينبع منذ آلاف السنين من المرتفعات الواقعة الى الشمال من العراق ويجري – منذ ذلك الحين – بصورة مستقرّة نحو الخليج حتى ظهور التقنيات الحديثة التي مكّنت الإنسان من التدخل السيء وبالتالي تغيير الجريان الطبيعي للنهر, خاصّةً وأنّ ميزان القوى في القرن العشرين وما تبعه من بروز أنظمة سياسية جديدة في المنطقة جعلت من مجرى نهر الفرات مجرىً دوليا وعابراً لكل من تركيا, سوريا والعراق. 

وبالرغم من عدم حصول اي تغيير في الصفات الطبيعية لهذا النهر, فإن الحدود السياسية (ليست حواجز طبيعية وإنما خطوط وهمية) جعلت النهر يبدو كمجموعة من الأنهر حسب حاجة كل دولة وطبيعة إدارتها له.

لقد تشكّل العراق القديم والحديث اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً بتاثير نهري الفرات ودجلة إذ إنّ الإنسان القديم وكما هو معروف قد نشأ في وادي الرافدين مهد الحضارات, وقد كان تدفق نهر الفرات منذ ذلك الحين وحتى منتصف سبعينات القرن الماضي وجريانه في العراق صوب الخليج عاملاً أساسياً في تنمية المجموعات البشرية, وكذلك في إنشاء وتطوير النظام البيئي الأهم في المنطقة الا وهي الأهوار الواقعة في بلاد ما بين النهرين جنوب العراق.

تمثل الحدود السياسية العقبة الأسوء في إدارة الأنهر التي تتشاطرها مجموعة من الدول. وفي الوقت الذي لا تفرّق فيه هذه الأنهر نفسها بين الحدود, فالسياسيون والمسؤولون عن ادارة الأنهر في البلدان المتشاطئة يعتبرون أن المياه فيما خلف الحدود السياسية هي ذات قيمة أقل أهمية. 

لقد عانى العراق – كبلد مصب- ولا زال يعاني الإهمال وقلة الموارد المائية الواردة من دول المنبع, كما أن تدفق المياه الى العراق في تناقص مستمر بسبب بناء السدود في كل من سوريا وتركيا. ويـلاحظ أن معدل تدفق ميـاه نهر الفرات في العراق خـلال الـ 25 عـام الاخيرة هو اقل بنسبة 45 % من الفترة ما قبل بناء السدود. وكان لشحة المياه الشديدة وارتفاع مستوى الملوحة الأثر الكبير الذي أدّى الى نزوح جماعي هائل من الارياف الى المدن والى قلة الإنتاج الزراعي فضلاً عن التدهور البيئي والى انكماش في غلاف طبقة الأراضي الصالحة للزراعة وازدياد احتمالات التأثر السلبي بالتغييرات المناخية.

وإرتبط الانخفاض الكبير في مناسيب تدفق نهر الفرات الى العراق وبشكلٍ مأساوي بالدمار الذي خلفته الحرب والعقوبات الاقتصادية, إضافة الى سوء الإدارة من قبل النظام البائد, وكان لهذا الأمر الأثر الكبير في انعدام الأمن الغذائي وازدياد أعداد الفقراء وفقدان المزيد من الأراضي الصالحة للزراعة وارتفاع نسب مخاطر التلوث وانتشار الأمراض المتنقلة بواسطة المياه, وقد تسبّبت تلك السياسات المتهورة بخسائر اجتماعية واقتصادية وأضرار بيئية خطيرة.

وفي السنوات الأخيرة قامت الدول المجاورة للعراق ببناء سلسلة من السدود الكبيرة على الروافد العليا لنهر الفرات وبسعة خزن لكل سد تتخطى المعدل السنوي لجريان النهر لمدة أربع سنوات. وواضحٌ بأنّ أيٍّ من المعايير الدولية الرصينة لم تُراعى في هذه الموضوع, وقد أثبتَ علماء البيئة والمدافعون عنها مع علماء الإقتصاد بما لا يدع مجالاً للشك الآثار السلبية الناجمة عن خزن كميات مياه أكبر من العائد الفعلي لتجمعات مياه الأمطار بصورةٍ تفوق المعدلات الطبيعية.

يعدُّ نهر الفرات الحاجز الاساسي ضد تمدّد الصحراء في العراق, وعملية التصحر هي تحول الأرض الخصبة الصالحة للزراعة الى صحراء لا حياة فيها, وهو ما يساهم في ارتفاع معدلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي. إضافة الى ارتفاع معدلات درجات الحرارة المسجلة في العراق الأعلى من متوسط سطح الأرض فإنّ التصحر أصبح العامل الرئيس في تغيّر المناخ المتسارع.

لقد أدّى النمو السكاني الخارج عن السيطرة والإدارة غير المستدامة للموارد المائية الى صراعات جدّية في المنطقة, كما أنّ غياب آليات اتفاق متبادل لتسوية النزاعات مثل اتفاقات تقاسم المياه بين الدول والصراعات على المياه, تشكل تهديداً خطيراً للإستقرار والسلم الدوليين.

وفي العراق, خيارنا الإستراتيجي هو الدخول مع الدول المجاورة لنا في حوارات جادة وسلمية لتحقيق اتفاقات لتقاسم المياه طويلة الأمد على أساس تحقيق المصلحة المشتركة, وقد وضعت الحلول العملية لتحقيق اتفاقات تقاسم المياه وتشمل النقاشات الجادة اتفاقات وتبادل المعلومات فيما يخص الإجراءات التشغيلية للسدود وزيادة إطلاقات معدلات المياه الى دول المصب, إنّ خريطة الطريق السياسية والتقنية ستكون ضرورية لتحقيق الإتفاقات النهائية بين الدول المتشاركة في الأنهر عموماً ونهر الفرات على وجه الخصوص.

* المستشار الاقدم لرئيس الجمهورية

وزير الموارد المائية السابق

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة