القراءة فعلاً كشفياً عند علي حرب

القسم الأول

د. سامر فاضل الأسدي*

حد الموضوع: يتناول البحث قضية ظاهرة في الخطاب النقدي العربي الحديث، تتجلّى بنمط القراءة السائدة للنصوص المختلفة. ذلك أن القراءات بمختلف أنواعها- كما سيتبيّن لاحقا- لم تستطع الكشف عمّا تُخفيه النصوص، ولم تستطع إنتاج نصوص بفعل قراءتها، وإنما كانت تبحث عن المعنى الأُحادي، وهذا ما كرّس تراجع الذات العربية أن تكون ذاتا مُنتجة للمفاهيم والأدوات ولمُعطيات الحداثة وما بعدها التي أصبحت طروحاتها تتجاوز كثيرا من المحددات، وتختلف حتى مع الاختلاف الذي شرّعته وسعت إليه.
ولأهمية القراءة صارت تُشكّل محور الدراسات النقدية، وهذا ما ميّز اشتغال(علي حرب) النقدي الذي يقع في ضمن دائرة قراءة النصوص، الأمر الذي جعله ينتقد الفعل القرائي الشائع في عصرنا، ويرى أن تلك القراءات أسهمت في قتل النص الأصلي، واختزلتهُ إلى مجموعة مقولات جاهزة، قابلة للتصديق والتكذيب الفني، من دون معيارية تُذكر، سوى أنها قراءات تصنيفية.
إن عملية تحديد مفهوم ما، عند ناقد ومُفكّر وفيلسوف أحدث حراكا نقديا تمثّل في إزاحة المفاهيم النقدية من نسقها الثابت إلى فعل ديناميكي متحوّل، ليس بالأمر الهيّن، وهذا ما يمثّله(علي حرب) في كتاباته طوال ثلاثة عقود، وهي بمُجملها تمثّل قراءات انماز صاحبها بطريقة خاصة في المعالجة والتحليل، وهي قراءة منهجية تخلو من التقديس أو التدنيس، وتحفل بأدوات البحث العلمي الرصين.
إن عملية القراءة عملية صعبة، تحتاج إلى ثقافة شاملة بوصفها اختلافا عن النص وليس تماهيا معه، وأن تنصبّ عنايتنا على ما تُظهره قراءة النص من التعدّد والاختلاف والتجاوز الدلالي، لذا فإن البحث في مفهوم القراءة عند(علي حرب) يضمن الخلود لنصوصها القديمة(الدينية والفلسفية والأدبية)، كما يُجنّبنا الوقوع في القراءة الإيديولوجية والعقائدية والتمذهبية التي يرفضها(حرب) في قراءاته النقدية. وبالفعل فإن القراءة لا تخرج عن مأزقها الإشكالي إلاّ إذا تخلّصنا من القراءة(الشخصية) التي ترصد المعنى الواحد، والقراءة المُتطابقة مع مقروء النص الأصل.
وهذا ما يجعل من القراءة عند(حرب) فعلا كشفيا مختلفا، ونشاطا مُتجدّدا بتجدّد القرّاء، بل بتجدّد القارئ نفسه. وهذا يعني أن(حرب) يريد من فعل القراءة أن يُصبح فعلا فكريا/ لغويا مولّدا للتباين، مُنتجا للاختلاف. فهي تتباين بطبيعتها عمّا تريد بيانه، وتختلف بذاتها عمّا تريد قراءته. وشرطها، بل علّة وجودها، أن تكون كذلك، أي مختلفة عمّا تريد أن تقرأ فيه، لكنها فاعلة، في الوقت نفسه، ومُنتجة باختلافها ولاختلافها نفسه. وفي هذا الفهم، يكون(حرب) قد قوّض القراءات المُنغلقة في ضمن النمطيّة السائدة. ولهذا فهي قراءة تختلف عن القراءات السابقة، كما أنها تختلف، بالضرورة، عن القراءات اللاحقة. وهذا سر فعلها واكتشافها.
والقراءة هي مهمة الناقد ما بعد الحداثوي، بل هي هاجسه، كما يرى(حرب)، ومن خلالها يمكن المضي قدما نحو الازدهار الحضاري والعالمية للنصوص، حتى وإن كانت نصوصا قديمة.
ولهذا نرى أن فعل القراءة عند(علي حرب) ينأى عن التصنيف والتنميط، كما هو في القراءات الاستهلاكية التي شخّصها في نقده لها، وأهمّها:

  1. القراءة العلمية:
    ويمثّلها الخطاب(الأركوني) في قراءته للنص الإسلامي، التي يتوهّم صاحبها أنها القراءة المنهجية الهادفة لتحرير النص الإسلامي، و»فتح العقليات المغلقة وتحريرها»( )، وهذا ما جعله يُحدث قطيعة مع القراءات السابقة التي تناضل من أجل إيديولوجيا الكفاح( )، المُهيمنة على الخطاب العربي. ولهذا فهي قراءة تنفي الموضوعية عن التفاسير القديمة والمعاصرة، التي لا يمكنها أن تبلغ مبلغ قراءته؛ لأنه يعتقد بأن العلمية مرتبطة بالمُستحدث من المفهومات النقدية، وكأنّ القدامى لم يتناولوا النص الإسلامي بدقّةٍ علمية. في حين أن النص الإسلامي بطبيعته يرفض العلمية بنسختها الغربية التي كان(أركون) وفيّا لها، ولهذا فالنص أقرب إلى فعل التأويل بوصفه فعلا كشفيا توليديا. يقول(علي حرب): «وإذا كان العلم يقوم بالتحليل، فالفكر يقوم بالتوليف. والفكر هو رجوع إلى الذات، أي تأوّل. وبالتأوّل يمكن رأب المعنى واجتراح الدلالة، أي الاهتداء إلى معنى اللامعنى»( ). ولذلك فإن قراءة(أركون) ما هي إلاّ مزاعم أسطورية- بحسب حرب- ووهم من أوهام المعتقدين( )، بقدرتها على تحديث العالم الإسلامي المتمثّل بنصّه الديني.
    وشدّد(علي حرب) على عدم وجود مثل هذه القراءة العلمية، بل رآها وهما من أوهام العقل الأداتي التي تؤدي بالنتيجة الحتمية إلى الوقوع في فخ الفهم والتفسير؛ ذلك لأنها قراءة تسوّغ لذاتها الكمال، وتؤطّر لمفهوم القبض على حقيقة المعنى للنص المدروس، وكأنّ الحقيقة مُعطى جاهز مكوّن سلفا، أي بصورة منفصلة عن فعل قراءتها وآلياتها القرائية( ). في حين أن النص- دينيا، فلسفيا، أدبيا- بطبيعته كونٌ مفتوح، لا يمكن الإحاطة به بمثل هذه القراءة. وهذا ما جعل(حرب) ينفي اشتغال(أركون) في حقل نقد النقد، ويعدّه مبشّرا، يقول: «والحق أن أركون يبدو لي مبشّرا بقدر ما هو مفكّر. والمبشّر يطغى على المفكّر في أحيانٍ كثيرة. إذ يُخيّل لي أنه يكرر نفس المعزوفة الفكرية أو الكليشهات المعرفية على طريقة الدعاة والمنظّرين، أعني الدعوة نفسها إلى التحرر من العقليات والرؤى والمناهج التقليدية للدخول في فضاء العصر والحداثة»( ). ويعتمد(حرب) هنا على طريقته في القراءة لنقض القراءة العلمية(الأركونية)، وهذا ما يُفسّر لنا أن القراءة العلمية هي الأخرى تعنى بـ(اللامفكر فيه) والمستحيل التفكير فيه، وهذا عائد إلى تحررها من الأدوات المُقنّنة.
  2. القراءة الإيديولوجية:
    وتمثلها قراءة(محمد عابد الجابري) للنص التراثي العربي، إذ اعتمدها بغية استعادة أقوال من يشاء من النصوص والاشتغال عليها، وإقصاء نصوص أخرى. ولذلك رفضها(حرب) ورأى أن(الجابري) بقراءته يميل إلى «النقض والدحض والإقصاء، أكثر مما يقوم بالتأويل وإعادة البناء، عندما يتعلّق الأمر بالفكر الفلسفي العربي»( )، ولهذا فهي قراءة لا تعتمد الكشف في فعلها، وإنما تنطق بأشياء، وتسكت عن أخرى، وقد تكون الأخرى أهم من المنطوقة، وعليه فهي قراءة تلفيقية أكثر منها إنتاجية. ولعلّ «السكوت هو المسؤول عمّا تنطوي عليه قراءة الجابري من(تلفيق) تمثّل في اعتبار الفكر العرفاني قد وفد على العقل العربي من خارجه، مع أن هذا الفكر قد يكون استعادةً مُبتدعة، أي مُبدعة، للوحي القرآني، وقبسا من مشكاة النبوّة، أيا كان مدى تأثّره بالفكر الدخيل»( ). ومثل هذه القراءة غير جديرة بقراءة النص قراءة أنطولوجية، تهدف إلى الإضافة لا إلى التماهي مع النص والتحيّز الفكري لنصوصٍ ما.
    وليس من واجبات الفعل القرائي تصنيف مُبدعي النص وحشرهم في خانات إيديولوجية، كما فعل(الجابري)( )، وإنما الإفادة من نصوصهم، والاشتغال عليها، وتحويلها إلى نص معرفي قابل للتداول في مختلف الخطابات( )، وجعلها نصوصا توليدية تناسلية تنأى عن الحدود الزمكانية، وتحتفي بسمة التعدّد والانفتاح المتراسل.
    ولم تبتعد قراءة(صادق جلال العظم) عن ذلك، كما يراها(حرب)، فما قراءاته إلاّ قراءات متماهية تماما مع النص الماركسي الذي شكّل أصول قراءاته( )، ولعل نقود(العظم) لخصوم الماركسية والماركسيين الجدد الذين انحرفوا عن نص(ماركس) دليل على قراءته المرتبطة بنظام الحقيقة التقليدي الذي يبقى في جوهره لاهوتي الفكر، ومن ثمّ، لا يعني الارتباط بأنساق الفكر الديني التقليدي فحسب، بل تتجلّى في بنيته القارّة التي يكشف عنها النقد الحفري لنظام المعنى في النص.
    وعلى الرغم من علمانية الخطاب الإيديولوجي، واعتماده على مفهومات دنيوية، فإنه لم يخرج عن النظام المعرفي للنصوص المتعالية عن قراءتها أنطولوجيا، ورغبتها المُضمرة في إقصاء المغاير والمختلف عن دائرة الحقيقة( ). بمعنى أن النص اللاهوتي والنص الإيديولوجي يقومان على المبادئ نفسها المؤسسة لنظام الحقيقة بوصفها مُعطى جاهزا في النص يجب اعتناقه.

هوامش:
( ) الفكر الإسلامي-نقد واجتهاد، محمد أركون: 20.
( ) يُنظر: قضايا في نقد العقل الديني(كيف نفهم الإسلام اليوم؟)، محمد أركون: 223.
( ) نقد النص، علي حرب: 86.
( ) يُنظر: الممنوع والمُمتنع، علي حرب: 135، ويُنظر: نقد النص: 79.
( ) يُنظر: الممنوع والممتنع: 134.
( ) م. ن: 137.
( ) النص والحقيقة- نقد النص، علي حرب: 96.
( ) النص والحقيقة- نقد النص: 97.
( ) هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، علي حرب: 30.
( ) يُنظر: م. ن: 38-39، ويُنظر: التأويل والحقيقة، علي حرب: 13.
( ) يُنظر: النص والحقيقة- نقد النص: 146.
( ) يُنظر: م. ن: 132-133.

  • كلية الآداب/ جامعة بابل

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة