«هاني فحص» نخلة سامقة (1 – 2)

رجل الوسطية والتعايش والحوار والأسئلة..

شكيب كاظم

يوم الخميس الثامن عشر من أيلول /2014رزئت الأوساط الثقافية والسياسية والدينية, في لبنان والوطن العربي برحيل السيد هاني (مصطفى حسن) فحص, رجل الوسطية والتعايش والحوار, مع الآخر, والسؤال, الذي ظل يطلقه طوال حياته المعرفية التي تجاوزت النصف قرن, السؤال الذي يرفض وجهة النظر الأحادية والمسطحة لأمور الكون والحياة.
هذا الفتى الذي بدأ يتلمس الدرب نحو قضايا الأمة, فكانت دولة الوحدة بين مصر وسورية في شباط,1958, أول جذوة, أو أول نبراس في متراس حياته, حتى أنه عزم وعددٌ من أصدقائه, من قريته (جبشيت) في الجنوب اللبناني, التي شهدت مولده عام 1946, عزموا على السفر إلى دمشق لكي يحظوا برؤية الزعيم جمال عبد الناصر وعادوا فرحين ومزهوين بإطلالته وهو يحي الجموع المحتشدة التي جاءت لتحيته, ثم كانت الحرب, حرب مايس 1958 في لبنان والتي أدت إلى إبعاد رئيس الجمهورية كميل شمعون, فضلاً عن رئيس الوزراء صائب سلام هذه المعارك, فضلاً عن الوحدة, وما سبقها من نزوح فلسطيني بعد إعلان الدولة الصهيونية في 15/من مايس سنة 1948 ولجوئهم إلى الجنوب اللبناني, هرباً من بطش المسلحين الصهيونيين, بلورت توجهاته السياسية, وأفكاره التي ما عتمت رحلته إلى النجف عام 1963 للدراسة في حوزتها إلى جانب عدد من أبناء الجنوب منهم: محمد جواد الأمين, وحسين قازان, ومحمد حسين المهاجر, وعبد اللطيف بري, وعلي بدر الدين, والذي يصفه السيد هاني فحص بأنه: (( كان إشكالاً يومياً متنقلاً وفي كل شيء من الشعر إلى الفكر إلى الحياة إلى الذاكرة إلى الحوار الذي يتحول إلى سجال أو نزاع, وفي الليلة التالية يأتيك السيد علي إلى منزلك ليقبلك ويبكي وتبكي… أو يضحك فتضحك, كان يتقن الحب والشغب وحسن النية التي دهورته)).
نعم, فلقد انتمى علي بدر الدين, إلى تيار السياسة العراقية في عقد السبعينات من القرن العشرين, وقرأت له ديوان شعر منتصف ذلك العقد, عنوانه (سيدي أيها الوطن العربي) زاخراً بالسياسة, ثم ما عتم ان اختفى من الحياة السياسية و الثقافية, وقد علمت بأنه قتل في الجنوب اللبناني بعد خطفه في آب1980.
ما عتمت رحلته الدراسية إلى النجف, التي كان يعدها مجتمع ملائكة لكنه لم يجده, وما كان هو ملاكاً, بل ظل يحاسب الشيطان ويعترف بأنه غلبه مرات عدة لكنه انتصر على الشيطان بالنقاط لا بالضربة القاضية!, لأن المبدئيين, والباحثين عن النقاء المطلق, أو القريب من المطلق تفجعهم الحياة بألاعيبها وأساليبها الملتوية, ما عتمت رحلته ان بلورت توجهاته السياسية, فكان دفاعه عن الجنوب ولبنان وفلسطين, التي رأى أن الحفاظ عليها لن يمر إلا عبر الحفاظ على لبنان موحداً, وصولاً إلى انشغاله بقضايا الوطن العربي والعالم.
وإذ يعود إلى بلده عام 1972, بعد ان أكمل دراسته الفقهية, تفجؤه قضية مزارعي التبغ, وكان أهله من زُرّاعه, ويصف لنا في الجزء الثاني من كتابه الرائع والجميل الموسوم بـ ( ماضٍ لا يمضي. ذكريات بين التبغ والزيتون والزعفران) الصادرة طبعته الأولى عام 2010 عن (دار المدى), زراعة هذه النبتة, حتى إذا استوت على سوقها نُقلت إلى مكان آخر, ويكون النقل فجراً, حين تكون في الجو رطوبة الليل, حتى إذا ارتفعت الشمس أنهوا عملهم, لأن جفاف الجو يميتها ويكون جنيها أصعب, ففضلاً عن مرارة النبتة واسودادها فان ورقة التبغ تصف ورقة ورقة قبل ان توضع في الطرود ثم تفرز ورقة ورقة إلى جانب نظيراتها ومثيلاتها ورقةً ورقة, فلكل حجم سعره, ولك ان تتصور أيها المدخن البطر, قساوة الحياة ومرارتها, مرارة اللقمة البسيطة المغموسة بآثار النبتة وظلالها على أيدي المزارعين والفلاحين, وهم يأكلون لقمتهم الشريفة بعد ساعات طويلة من العمل المضني, واضعين في الحسبان, قلة الماء وشحه الذي لايكفي لبل الرمق وإنزال اللقمة, فكيف يهدر على غسل اليد؟! كانوا يحرمون انفسهم الماء ويسقون الشتلة, يؤثرونها على انفسهم , فيختلط الأكل بالمرارة, مرارة ورقة التبغ, يصبح السكر مشوباً بالمرارة, وتدخل مرارة التبغ على مرارة الشاي.

دفاعاً عن قضايا الناس
رجل الدين, المثقف السياسي النزيه, الوسطي يضع كل ثقله مع هؤلاء الفلاحين البسطاء, الذين تحاول شركة الريجي المحتكرة لزرعه وتسويقه, تحاول بخسهم أشياءهم وحقوقهم, فيقود هاني فحص التظاهرات في النبطية, ويسقط أكثر من شهيد برصاص الدرك والجيش, فينقل الاحتجاجات إلى العاصمة بيروت.
وإذا كان الجزء الأول من كتابه (ماضٍ لا يمضي. ذكريات ومكونات عراقية) الصادرة طبعته الأولى عن (دار المدى) عام 2008, وكما يقرر العنوان, يكاد يكون خاصاً بدراسته في العراق, بحوزة النجف وحياته فيه – كذلك- والتي على الرغم من الدراسة الحوزية المتشددة في طقوسها على مستوى الدرس والملبس والتصرف, ما استطاع الطلبة اللبنانيون, تأجيل ترفهم وأناقتهم فكنت ترى الساعة في المعصم, فضلاً عن البنطلون تحت الجبة, ولبس القميص الملون, وقفزة أخرى نحو قراءة الأدب ومجلات (الآداب) وحتى (الطريق) اليسارية اللبنانية والكتابة بالأسلوب الأدبي, الذي تعاب الكتابة فيه في طقوس الحوزة, الأمر الذي يذكرني, بالدكتور عبد الرحمن بدوي القامة الثقافية الشاهقة, الذي كان يعيب على الباحثين المصريين إسلوبهم الأدبي وهم يكتبون, وكأن إسلوب الأدب مَعَرَّةً وعيباً وهو ما سطره في مذكراته الموسومة: (قصة حياتي) صدرت عام (2000) وبجزءين والتي أدرت عنها حديثاً نقدياً عنوانه (عبد الرحمن بدوي في سيرته الذاتية) نشرته جريدة (العرب) الصادرة في لندن يوم الثلاثاء15/من آب/2000 وأعدت نشره في كتابي (مطارحات في الثقافة. حين تجسد الكتابة علاقة) وأصدرته دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد عام 2007.
ويعود هاني فحص إلى الحديث عن أيام دراسته في حوزة النجف في الفصول الأخيرة من الجزء الثاني من كتابه آنف الذكر, ليذكر العديد من زملائه وأساتذته, واقفاً عند أستاذه الفاضل الدكتور محمد تقي الحكيم – رحمه الله – الذي كنت أقرأ بحوثه في مجلة (المجمع العلمي العراقي) وما زالت دراسته الضافية عن (الضعف) هل هو إثنان أم ماذا؟ مازالت في الذاكرة على الرغم من السنين. والوفاء يقتضيه ان لا ينسى – كذلك- أستاذه مصطفى جمال الدين – رحمه الله- فضلاً عن السيد محمد حسين فضل الله.
ما ان يصل هاني فحص إلى النجف حتى يقرر ان يعتمر العمامة ولأنه لا يعرف كيف يعتم بها, فان صديقه الظريف جعفر الصائغ يتولى الأمر, وقد أثار ذلك تعجب الكثيرين, وقال بعضهم: بكير على السجن, وكانوا على حق, لأنه في اليوم الثاني – كما يقول السيد هاني – تعثرت بذيل جبتي وسقطت على ارض الشارع على وجهي وأنحلت عمامتي, ولم استطع لفها وعدت إلى المدرسة بشكل كاريكاتوري… لم افرح ولم أحزن, ولكن شعرت بشيء من الحموضة في ريقي…تراجع ص433من الكتاب, وسيظل السيد هاني يذكر الكثير من المفارقات التي جلبتها له العمامة, يوم يزور المستشفى لعيادة قريب, ويسلم على الغادي والرائح فهذا مما يليق برجل الدين, لكن يفجؤه ويفجعه, قلة إكتراث بعضهم أو رد السلام ببرود, حتى إذا قرر عدم السلام, رأيت من يقفز من مكانه, محيياً السيد ومرحباً به!! والأفجع ما حصل أثناء حرب لبنان في شهري تموز وآب / 2006.

صادق مع الناس وذاته
ولأن السيد هاني فحص, صادق مع نفسه, يدون حتى ساعات الضعف الإنساني, والإنسان مخلوق ضعيف (وخلق الإنسانُ ضعيفاً) فأنه يحدثنا عن حالات هذا الضعف, فهو من الذين يحاولون إعطاء المرأة حقوقها, وينادون, لكنه إذ يدعى إلى ندوة بشأن المرأة, تدعوه اليها جمعية نسائية في النبطية يذهب وحده , من غير ان يصطحب معه زوجته السيدة نادية علي علو (ام حسن) ابنة العائلة الدينية المعروفة آل الزين, التي تولت الوعظ الديني والإرشاد في تلك المنطقة سنوات طويلة , يقول الأستاذ فحص: (( وعندما لاحظت إحدى السيدات غياب زوجتي, سألتني عن السبب فلم أقل شيئاً حتى لا أكذب, ولكن السيدة السائلة ابتسمت ابتسامة ذات معنى ولاذت بالصمت فلذت بالصمت مثلها )).ص17.
ويتكرر الحال , هو يعترف بضعفه الإنساني, على الرغم من المكابرين الذي يدعون إلى حرية المرأة – كما دعا الزهاوي ابنة فهر إلى ترك الحجاب!, في حين إذا اصطحب ضيفاً أو جاءه ضيف, نادى على زوجته ان تخلي حوش الدار نحو غرفتها!. وما أظن قاسم أمين إلا مثل الزهاوي, هو الذي صَدَّع رؤوسنا بدعواته لـ (حرية المرأة).
لكن هاني فحص يعترف بضعفه, فاذ تدعوه جمعية نسائية في النبطية – كذلك – أكثر عضواتها يعرفن زوجته (أم حسن) تدعوه إلى ندوة بشأن عاشوراء, حصار الحزن. فيذهب وحده – كذلك – ((وعندما سألتني السيدة سلمى علي أحمد رئيسة الجمعية عن أم حسن, أدركني الحرج, وتلعثمت فسكتت رحمة بي, وحاولت العلاج فكلفت الحاج عبد الحليم عطوي بالعودة إلى قريتي لدعوة أم حسن إلى الندوة, ولكنها تمسكت برفضها ان يكون حضورها منة مني عليها. وحتى الآن مازلت أعيش سلبية هذا التصرف, فإذا تحدثت عن المرأة في المقابلات التلفزيونية أو الصحافية, أو كتبتُ عن المرأة, أظل حريصاً بالإضافة إلى الإرباك الذي يداهمني, أظل حريصاً على ان لا تسمع زوجتي أو تقرأ ما أقول حتى لا تذكرني وتروي لضيوفي ما حدث لها سابقاً, وتلزمني بالتزام الأعذار التي لا يقبلها أحد ولا أنا))تراجع ص17.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة