التنوّع النصّي في(كلما قلت.. قالت الى أين ؟) لـ»أنمار مردان»

علوان السلمان

النص الشعري بكل اشكاله وعوالمه عاطفة متوهجة خالقة للتساؤلات بالفاظ محققة لفعلها وتفاعلها الانساني وهي تسعى لتحقيق ذات منتجها..كونها نشاطا ذهنيا يركز على اللحظة المستفزة التي يسجلها بالفاظ موحية خالقة لصورها الشعرية التي تعني بمظاهر الخطاب اسلوبا وبناء ودلالة.. اضافة الى ان عملية الخلق الشعري هي نتاج محصلة قوى الشاعر ومكتسباته الحياتية ورؤاه..من خلال الالتقاط الواعي والحضور التام للاشياء في الواقع..اذ ان الوعي الواقعي لا يكون مفهوما الا اذا كان منطويا على وعي فني .. كون الوعي يعني المعرفة والتخيل في آن واحد كما يقول برونوفسكي..وهذا يتطلب عدم الفصل بين الشكل والمضمون ..بل النظر اليهما كوحدة واحدة تشكل بودقة النص وهنا يكون حضور النص بكامل ابعاده..
والشاعر انمار مردان من خلال تجربته الشعرية في مجموعته(كلما قلت قالت: الى اين؟)التي توزعت ما بين القصيدة والقصيدة القصيرة جدا(قصيدة الصورة) التي تستدعي مهارة فنية وقدرة على التركيز والاختزال مع اكتناز دلالي وعمق فني ..كونها ضربا متميزا من التقنية في القدرة على ايجاد بنية شمولية في بضعة اسطر محدودة.. لذا فهي تقتضي وعيا معرفيا وقدرة شفيفة خالقة للمعنى.. وقد اسهم الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق في نشرها وانتشارها/2021…كونها تتسم بخصوصيتها التركيبية ووحدتها العضوية مع ايحاء وتفرد في الايقاع والصور واللغة الرامزة والفكرة المنبثقة من بين مقطعياتها الشعرية.. فضلا عن انها تنقل موقفا شعوريا بعاطفة موحدة وتناغما موسيقيا تركيبيا دلاليا من خلال منطق الرؤيا فيما وراء الاشياء..

الفريسة انتَ..وانتَ ترتشف القطعة البيضاء
تجرك عربتهم الخالية من الاقنعة
القارىء هو لحمك
المسرح يطلق نقطة الصفر
لن تعوم في ثغر الاتربة
ما زلت صبيا ايها الرائي
فالاتربة لحن جديد تدندنه الابخرة الفاخرة
الفريسة والاقنعة والقارىء والمسرح والاتربة والرائي والابخرة هي جذورك لتكون شجرة ينال منها المطر ولا تبتسم /ص9ـ ص10
فالمنتج(الشاعر) يخلق نصا ديناميا باسلوب متوازن من خلال الصور المجردة التي صيرت التعبير الشعري تداولي المعنى والذي لا يخلو من حس دلالي عن طريق استثمار التكرار الذي وظفه للتوكيد وتوسيع مديات النص والصورة.. اضافة الى انه يشكل ظاهرة ايقاعية تثري النص وتصل به الى ذروة التعبير عن النفس التي تعيش حالة الصراع مع المحيط..كونه نابعا من صميم التجربة..فضلا عن توظيفه اسلوب الاستفهام والنداء الذي يعني اختزال الماضي .. فكانت الصورة الشعرية التي هي ( احدى العلاقات البارزة في الادب الحداثي) كما يقول (اتلمان كراتسو) ..كونها تهدف الى ايقاظ مكامن الشعور وبعث التوترات السيكولوجية لحظة الخلق الشعري.. وهذا يعني ان الصورة مؤسسة على حجم القصيدة التي ارتقت اعلى درجات التعبير وحققت امكانية التأثير كونها اسهمت في توليد البنية الدلالية والتي تعد من اهم المرتكزات الاسلوبية لدى الشاعر بما تحدثه من اثر في نفس المتلقي من خلال المفاجأة المقترنة بالانزياح الدلالي..
اما في نصوصه القصيرة جدا(الصورية) التي تعد شكلا من اشكال الحداثة التي تحالفت والتحولات الفكرية والفنية والمؤثرات الخارجية لخلق عالمها المساير للعصر الذي وسم بعصر السرعة.. فهي تعبر عن احساس شعوري او مشهد ومضي بلحظته البارقة..المتجاوزة لمحطات الذاكرة ليحقق في المخيلة وجوده المستفز للفكر المنتج لنصه المقتصد بالفاظه والموجز بجمله..
كلما قررت الهروب بوحدتي
اجد راسي يتدحرج نحوك
بنصف عقل/ ص91
فالنص يطرح افقا متجاوزا بتفجيراته الدرامية المرتكزة على تقنيات فنية امتدت على امتداد الجسد النصي السابح في عوالم متصارعة مؤطرة باكثر من زاوية رؤية فكرية بحكم حركة التحول والانفعال المشهدي التي تقوم على شبكة من العلاقات (الحدثية والشخصية والصورة الشعرية..) التي تؤطرها وحدة عضوية نابضة بالحياة.. وكاشفة عن مكنونات الذات الانسانية واشتغالاته الفنية وصوره المستفزة للذات الاخر(المستهلك) من اجل استنطاق ما خلفها والكشف عن عوالمها..اضافة الى اعتماد المنتج(الشاعر) في بعض نصوصه على عنصر الروي وسيلة لبلوغ شعريته وعمله على نظام البناء المنطقي القائم على تشظي النص الى عدد من المقاطع المعتمدة الحرفية الهجائية او الترقيم ..كي تجعل المتلقي مشاركا الشاعر في اختيار العنوانات..كما في (اوشك ان انادي لِمَ)ص23..و(مكائد)ص76.. و(ذاكرة للكسر)ص67..
وهي في وحشتها
هنااااااااك
تلبس ليلها بكل رماده
لا حول..لا قوة لها
فالمنتج(الشاعر) يترجم احاسيسه وانفعالاته من خلال التقطيع الحرفي للفظة وتوظيف التناص.. بنسج شعري يحقق وظيفته من خلال الفكرة والعمل داخل اللغة عن طريق خلق علاقات بين المفردات بوحدة عضوية متميزة بعالمها المتناسق جماليا مع دقة تعبيرية بالفاظ موحية ودلالة مكثفة بتوظيف تقانات فنية محركة للنص كالرمز السمة الاسلوبية التي تسهم في الارتقاء بشعريته واتساع مساحة دلالته التي تجرنا الى قول النفري الصوفي(كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤيا)..
وبذلك قدم المنتج(الشاعر) نصوصا تجنح الى ان تكون نصوصا رؤيوية تعتمد على استثمار الجملة اللغوية المشحونة بطاقات تعبيرية تقيم شعريتها على الغرض الموحد لتلك الطاقة مع تعامل صوره مع الفكرة ..لذا تبدو بصرية حسية مع بناء درامي يستمد من تفاعل ذات الشاعر بواقعه بتأملية مؤثرة منبعثة من لغة شعرية متدفقة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة