حِراك العيون السّاحرة

راضية تومي

أغلَقتْ باب الشقة واتجهت إلى الحمّام وهي تصرخ: “لقد عدت!”. بإغلاقها الباب، سَكَتتْ الأصوات التي كانت تعجّ في رأسها. كانت هناك معهم في الحِراك. لم تعد تُخلِّف موعدا منذ أن اكتشفت كلّ تلك الأشياء الجديدة التي لم تفعلها من قبل والتي لم تفكِّر فيها بجدية سابقا. الاحتجاج، السّير في الشوارع، التجمع مع أناس من مختلف الأعمار والمدن والخلفيات الفكرية، وترديد شِعارات حماسية مع الجموع في جوّ يملؤها شغفا. الجمعة موعدها الأسبوعي لِلِقاء صديقاتها والذهاب معا إلى شارع من الشوارع الأكثر قربا من البيت حيث يتجمع المواطنون للتعبير عن رفضهم لِعُهدة خامسة. في إحدى المرّات ذهبن إلى ساحة البريد المركزي وهناك كانت الجموع حاشدة لا يكاد الواحد يجد حريّة في الحركة. المشهد أكثر من مُدهش. هناك كانت تستبد بها قشعريرة فائرة كأنها نار حثيثة تُحْيي دماءها النائمة. كلّ أولئك الناس الذين يهتفون معا بشعارات مردِّدة عبارات تدعو للتغيير وإسقاط وجوه الفساد، وكل تلك الرّايات المُمثِّلة للعلم الوطني التي يرفعونها في أيديهم أو يلتحفون بها أو يعلّقونها على شرفات العمارات المقابلة، كل تلك الابتسامات والهتافات وحركات الأيدي الساخطة التي ترتفع وتنخفض بإيقاع واحد هو إيقاع التغيير وإيقاع رفض الاستسلام لواقع مُزرٍ، كُلّ ذلك يجعلها تشعر بأنها تعيش ثورة حقيقية، تغمرها بشعور عميق بذاتها وبكرامتها: إنّها فرد من هذا المجتمع ومواطنة حرّة في هذا الوطن. نعم إنها ثورة، هذا ما أحسّت به وهي تلتحق بموعدها المتجدد الذي يملأ رأسها الشابّ والحالم بفيض من الأحلام والمشاعر المختلطة… فرح، حماسة، نشوة، قوّة، تمرّد و… شعور آخر تسرَّب إلى جوارحها بهدوء ثابت كأنه الماء الواثق يحتل بطن النهر العطشان… شعور ساحر مُربِك لذيذ… التقت عيناهما فجأة… وفي لقاء اللّحظين المشدوهين في غمرة حراكٍ هزَّ عرش الحاكم المُقْعَد الغائب وحاشيته، ارتعشت الأجفان وخفق قلبان شابّان.

… مِن حينها أصبح موعد الجمعة هو موعد للحلم والعذوبة، موعد مع وعود العيون الساحرة المتغّزِلة ووعود غدٍ جديدٍ تحمله هتافات الحناجر الرافضة، المتمرّدة على سنوات من الركود والفساد والصمت المُداهِن .

بعدما أكملت حمّامها وارتدت بيجامتها، توجهت إلى المطبخ، ليس على قدميها وإنّما على سحابتين زهريتين كأنهما القطن طراوة وملمسا وحنانا. قبّلت وجنتي والدتها العاكفة على تحضير وجبة العشاء. سألتها والدتها عن الجديد، فابتسمت وكأنها تكتم سرّا وقالت إنّ الحشود كانت لا تُصدَّق… كأنه خيال… أمر رائع أمّي تفتح الثلاجة، تسكب عصيرا في كأس زجاجي ملوَّن، تخطف قطعة من كعكة الموسكوتشو الموضوعة على الطاولة وتتجه إلى غرفتها على سحابتيها الزّهريتين وكأنها تلبس حذاء تزحلُق. وفي طريقها تلتقط حقيبتها من المدخل.

. ما إن أغلقت باب الغرفة حتى وضعت الكأس والكعك على الطاولة الصغيرة الموجودة إلى جانب سريرها. فتحت حقيبتها بيدين مرتعشتين. وجدت هاتفها السّْمارت يضيء في زاويته بتناوب. خفق قلبها بشدة. كتبت كلمة السر. ارتمت على سريرها وضغطت على أيقونة الواتساب التي كانت تحمل على كتفها العدد 12… أصابتها قشعريرة فرِحة… ضغطت على الأيقونة الخضراء التي تحتضن داخلها صورة سمّاعة هاتف من النوع القديم، ذي لون أبيض. وفورا انفتحت رسائله الاثنا عشر. كتب لها في الأخيرة: “أنتِ من النّوع الذي أحبّه.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة