هشام نفاع هشام
أسهب في البحث عن فروع شجرة عائلته. أسهبَ حتى هبّب، كوصف أهل مصر لمن يُمعن في الهُراء. راح يتسلّق فرعًا هنا ويمسك بغصن هناك، ويعود لينزل بقدمه اليمنى ثم يصعد باليسرى ويتكئ بجذعه إلى جذعها، ويمدّ يسراه لتتمسّك بما تيسّر، فتفاجئه اليمنى ويتعثر، ويعود لينزل جنوبًا ثم يصعد شمالًا ويسند حالَهُ بمؤخرّته، وكتفيه، وعنقه المشدود. راح وجاء وناور وحاذر، ولم ينتبه فجأة كيف سقط. فقد زلّت قدمه عن فرعٍ يقف عليه حشدٌ ثقيل ضمّ عمومة وخؤولا ملتفّين معا بحرارة النّسب، فانكسر فرعهم تحتهم. بدأت مسيرته المضنية حين سخر منه جلساء المقهى وتحديدًا بعد نعْت أحدهم إياه كـ: مقطوع من شجرة. “أأنا سقْطٌ من فرع متيبّس مُترَب نخره الدود وحفر فيه خنادق وهجرها حتى جاء وعشّش واستحكم فيه النمل؟”، راح يتفجّع: “مقطوع من شجرة؟ غصن هش يتكسّر تحت الأقدام؟ أنا؟”. شعر أنفه مسدودًا بالطين ووجهه مغطى بقشرة غبار خشن وجفنيه بالكاد يتحركان مُصدرَين صوتًا كصَرير باب عتيق في بيت مهجور. لكن قوّة داخليّة عارمة من النوع الذي يتحدثون عنه بثقة مفرطة دونما دليل وبيّنة، نفضته نفضًا. صار كفراشة يجب أن تخرج من شرنقتها في هذا التوقيت بالضبط، وفقًا لساعة كونيّة مضبوطة بحتميّة لا تخضع لإرادات. فوقف، نظر نحو الباب، شقّ طريقه خارجًا بين دخان النراجيل الذي شكّل غيمة كثيفة متطاولة تنذر بأن تمطر عصير تفّاح ونعناع وخوخ محمّض، وأطلق لساقيه العنان. الآن بعد دقائق على مغادرته المقهى، تطنّ في رأسه كنحلة عملاقة فكرة واحدة: سأجد الشجرة التي قُطعت عنها. كان يعي ويتناسى الحقيقة المرّة: هذا ليس بالأمر اليسير. أين سيجد الشجرة وفي أية غابة؟ لذا قرّ قراره على العودة إلى الأصل: إلى شجرة الحياة العتيقة. سأبدأ البحث من هناك. راح يتصفّح بسرعةِ مَن يبحث عن ورقة مهمة بل مصيرية خبّأها وسط ألف كتاب قبل ألف عام داخل طيّات صفحات كتابٍ لم يعد متأكدًا من عنوانه. تصفّح وتصفّح حتى وصل صفحة شجرة الحياة. لم يجد شجرة بل غابة، أو دغل من القطع الكبير. تشابكت الأشجار واختلفت أصولها وتفرّعاتها ولم يزدد إلا حيرة: بأية شجرة سأبدأ؟ حملقَ وحملق حتى داخ، وصلت رائحة الغابة أنفه متجانسة، واحدة، ورأى فيما يرى النائم ثمر إحداها ينقط أساطير من آشور عن الخلود والخصوبة، نمت وكبرت في سفر التكوين لتصبح الشجرة التي طرد بسببها أدم وحواء من الجنة. ضاع في هذيانه بين ظلال المعاني، فقرّر التسلّق وليكن ما سيكون. حين زلّت قدمه وسقط، وجد نفسه في حفرة بين الشجر، قعرها موحل وحوافها صخر ناتئ. حاول القيام فكان كالمربوط بأوتاد مغروسة بثبات في التراب. راح يحدّق فوقه نحو كوّة الضوء الشاحب كمن ينتظر ملاكًا مارًّا بالصدفة في المكان، علّه يأخذه بمركبته الخفيّة، وحين اعتادت عيناه العتمة، رأى جذورًا خشنة ملتوية بين شقوق الصخر فصعقته فكرة أنها أصول شجرة عائلته: مرة أخرى تراب؟ تذمّر بتمَقرُف. ومن دون أن يفهم كيف ومن أين ولماذا، جاءته صفعة مدوّية طيّرته في الهواء على موجات صوت غاضب خشن زعق عليه: “روح إنِقلعْ وَلَه، إسّا مش عاجبك التراب يا خرا يا إبن الخرا؟”.. طار مصفوعًا وحطّ على كومة حشائش جافة يملؤها التراب على قارعة شارع أسفلت كانت تمرّ عليه تلك اللحظة بالضبط سيّارةٌ لامعةُ طاساتِ العجلات محمّلة بضجيج موسيقي إلكتروني، وبالضبط في لحظةٍ رمى أحدهم فيها من داخل السيارة قنينة بيرة فارغة طارت نحوه كرصاصة وكادت تفجّ رأسه لولا سنتيمتر واحد قبل أن تتشظّى بزجاجها الأخضر على جذع شجرة خلفه.