د. عبد الكاظم جبر
تحدّثُنا المصنفات اللغوية والأدبية القديمة عن استطراف القدماء لجمع تكسير ورد في قول الفرزدق، يمدح يزيد بن المهلب:
وإذا الرّجالُ رأوا يزيدَ رأيتَهم خُضُعَ الرّقابِ نواكسَ الأبصارِ
فقد استغربوا وصف العقلاء – الرجال- بـ (النواكس)؛ لأنه خارج عن أقيستهم ، إذ جمعَ أبو فراس (فاعل) على (فواعل)، وما كان من (فاعل) صفة لعاقل لا يجمع على (فواعل)، قال المبرد في (الكامل): ((وفي هذا البيت شيء يستطرفه النحويون، وهو أنهم لا يجمعون ما كان على فاعل نعتًا على (فواعل)؛ لئلا يلتبس بالمؤنث؛ لا يقولون ضارب وضوارب، وقاتل وقواتل؛ لأنهم يقولون في جمع ضاربة: ضوارب، وقاتلة: قواتل، ولم يأتِ ذا إلّا في حرفين؛ أحدهما قولهم في جمع فارس: فوارس؛ لأن هذا مما لا يُستعمل في النساء، فأمنوا الالتباس. ويقولون في المثل: (هو هالك في الهوالك) ؛ فأجروه على أصله لكثرة الاستعمال، لأنه مَثَل؛ فلما احتاج الفرزدق لضرورة الشعر أجراه على أصله، فقال: نواكس الأبصار، ولا يكون مثل هذا أبدًا إلا في ضرورة)). وما زال القدماء يرصدون هذه الألفاظ الشاذة جيلًا بعد جيل ، حتى بلغ عددها أحد عشر لفظًا ، ليحتاطوا بذلك من الخروج عن القياس، وهذه الألفاظ التي شذت عن القياس هي : فارس وفوارس، وهالك وهوالك، وحارس وحوارس، وحاجب وحواجب، وحواجّ بيت الله ودواجّه، جمع حاج وداج – وهو المكاري – ورافد وروافد، ، وخاشع وخواشع، وناكس ونواكس، وغائب وغوائب، وشاهد وشواهد. وربما زاد عليها بعضهم قليلًا، وخصّوا كل ذلك بضرورة الشعر ليس غير؛ لأن فاعلًا لا يجمع على فواعل إلا ما هو معهود.
ومن الحقيق بالذكر أنه لا يصح إطلاق أن فاعلًا لا يجمع على فواعل، إنما يمتنع ذلك ويتوقف على السماع في صفة العاقل، أما فاعل إذا كان اسمًا جامدًا كـ (ساعد)، أو صفةً لمذكر غير عاقل كـ (خاطر)، أو صفة المؤنث كـ (طالق)، فيجوز جمعه على فواعل، وهذا ما ذكره سيبويه وغيره، ومن هذا نواقض الوضوء جمع ناقض، وقد غلّط السبكيُّ متقدمَه النسفيَّ حين قال: إن نواقض جمع ناقضة. وما هذا إلا لتوهم النسفيّ أن نواقض لا يكون جمع ناقض ، وناقض هنا اسم جامد يصح منه هذا الجمع.
وأعود إلى الفرزدق و(نواكسه)، فأقول :إن المتأخرين التمسوا إلى الفرزدق مخارجَ غير الضرورة التي أفاد بها المتقدمون، فذهب ابن الصائغ إلى أن (نواكس) صفة للأبصار من قِبل المعنى، لأن الأَصل قبل النقل (نواكس أَبْصَارهم) والجمع في هذا قبل النقل سائغ، لأنه غير عاقل فلمَّا نُقل تركوا الأمر على ما كان عليه، لأن المعنى لم ينْتقل، وليس أن (نواكس) صفة للذكور العقلاء (الرجال). وذهب غير واحد إلى أَنه أراد بالرجال جماعات الرجال، فكأنه جماعات نواكس وواحده جماعة ناكسة، فيكون مقيساً جارياً على بابه كقائلة وقوائل .
غير أن الطريف في هذا الجمع الطريف؛ أن يذهب الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف – رحمه الله – في تخريج هذا الجمع إلى القول: (( إن الفرزدق عمد في هذا المقام إلى هذه الصيغة عمدًا، فهو يصف الرجال عند رؤية يزيد بالذلة والانكسار، وتنكيس الأبصار مما كانت تفعله النساء المحتشمات عند رؤية الرجال ذوي المهابة والقدر، ولعل الفرزدق كان يريد الإشارة إلى شيء من هذا، عندما استخدم (نواكس) جمعًا لـ (ناكس) وصفًا للرجال في هذه الحالة، وكأنه جعلهم نساءً عن طريق استخدام الصيغة التي تستخدم لهنّ)).
أقول: أفيكون – حقًّا- أن أبا فراس قد قصد إلى ذلك قصدًا، فعمد إلى تحقير الرجال وإعطائهم صفة النساء والتنقص منهم، باستعماله هذا الجمع؟!، لا أدري.. ولكن كل الذي أدريه أن الشعراء الأوائل، إذا كانوا في ميدان المدح والفخر، لا يجنحون إلى التنقص والتقليل من شأن الخصم أو العدو الندّ؛ لأن هذا غير مناسب للغرض الذي هم فيه، وقد عرف المشتغلون بالأدب الجاهلي ما يسمى بـ (القصائد المنصِفات) التي يكون فيها هذا اللون من الشعر- في كثير من الأحيان- معلنًا للخصم صورة الممدوح، فالشاعر لا يقف من خصمه- في أحيان كثيرة – موقف الحياد، بل يسبغ عليه من الصفات ما لو قرأناه بمعزل عن الأبيات الدالة على المواجهة والقتال لما شككنا في أنه مدح. والفخر بمنازلة الأبطال ومناجزة الرجال الفوارس أمر واضحٌ في قصائد الفخر والمدح، وهو أمرٌ يتناسب طرديًّا مع خطر الممدوح وعظمه، ومن ذلك ما قاله الأعشى في الفُرس يومَ ذي قار:
وجندُ كِسرى غَداةَ الحِنوِ صَبَّحَهُم مِنّا كتائبُ تُزجي الموتَ فانصرفوا
جحاجِحٌ وبنو مُلكٍ غَطــــــــــــــــارِفةٌ مـــــــــــــــن الأعاجمِ في آذانِها النُّطَفُ
أو كما قال عنترة:
ودُرْنا كما دارَتْ على قطبها الرَّحى ودارتْ على هام الرجال الصفائحُ
وعليه، فلا أكاد أوفق الأستاذ حماسة على ما ذهب إليه، وإذا كنتَ توافقه – أيها القارئ- فيه فجديرٌ بك- أيضاً- أن تسترسل إليّ وتوافقني في ما هو جارٍ مجراه ، ذلك أنه ربما أعطى الفرزدق للرجال صفة المذكر غير العاقل، فصح له هذا الجمع، كما صح (نواكس) صفة لـ(الجِمال)، ومفردها (جمل) الذي هو مذكر غير عاقل، فكأنه أعطاهم صفة هذه البهائم التي يصح منها التنكيس، وألحقهم بسببها بفصيلة البهائم التي لا تعقل.
والحقَّ أنني لا أريدك أن تذهب بعيداً، فلا أظن أن أبا فراس كان قصد إلى هذا، ودار في خلَده منه شيء، وإنما هذا مذهبٌ في التأويل تعلمناه من أهل هذا الزمان، فكم يبعد النقاد في التأويل والترسل إلى غير ما يريده الشاعر والناثر!.. ولكنه لا يضرّ من حيث إنه تدريب وامتحان للقدرات. ولعلك تقول: إن كان لا يرضيك من هذا شيء، إذن، فما الذي يمكن أن يرضيك في (نواكس) الفرزدق؟، فأقول: يبدو لي أن الذي رهص بأبي فراس إلى هذا الجمع في هذا الموضع، أحد أمرين، أحدهما: إن استعماله لهذا الجمع جارٍ على ما هو عليه أهل العربية في زمانه، على طريقتهم في التوهم، الذي هو باب من أبواب التطور في الصيغ والتراكيب والدلالات، يقرّه أهل الصناعة من العلماء، وليس لعاقلٍ أن يردّه ، محكّمًا منطقًا صوريًّا في ذلك، ومنطق اللغة – أيّة لغة – منطق خاصّ لا يملكه إلا أصحابها الناطقون بها، وما زال العلماء – كما ذكرتُ – جيلًا بعد جيل يرصدون جموعًا كمثل هذا الجمع، يضمونها إلى هذا الغريب – أو الذي صار غريبًا- ثم من أين لنا الإحاطة بكلام العرب جميعًا؟ .. ولكم فاتنا منه الشيء الكثير، ومنه ما تقادم عليه الزمن-والأمر سنّة في اللغات- فصار نسيًا منسيًّا! وعليه، فمهما يكن من جهد جهيد يبقى الاستقراء ناقصًا. والآخر: إن لفظ (الرجال) مما يُذكّر ويؤنّث في لغة العرب، ومن ذلك قول عنترة:
فأقحمُها ولكن معْ رجــــــالٍ كأنَّ قلوبَها حَجَـــرُ الصَّعيدِ
وقول جرير أيضاً:
فما شهدتْ رجالُ التيمِ حربًا ولا أيــــــــــــامَ طخفةَ والنسارِ
وبلغ من اشتهار التذكير والتأنيث في هذا اللفظ؛ أنه يذكر ويؤنث في موضع واحد! قال عنترة:
وسارتْ رجالٌ نحو أخرى عليهمُ الــ ــحديدُ كما تمشي الجِمالُ الدوالحُ
ومن ذلك أيضًا- وهو أمرٌ مهم- قول الفرزدق:
أتَتْكَ رجالٌ من تميمٍ فشَهّدوا فضيّعتَ حقّ اللهِ في ظلمِ مالكِ
أقول: إذا كان هذا اللفظ مما يُذكّر ويُؤنّث، أفلا يكون ذلك سببًا شخص بالفرزدق إلى هذا الجمع؟، وأنت ترى أن الفرزدق نفسه يُمضي فيه التأنيث والتذكير في موضعٍ واحد!..