مقومات القصيدة الشعرية الحديثة في “نصوص السبورات .. غلطة العراقي”

يوسف عبود جويعد

في المجموعة الشعرية (نصوص السبورات– غلطة العراقي) للشاعر وسام هاشم، التي حملت الكثير من المتغيرات الحداثوية الداخلة في عملية بناء القصيدة الشعرية الحديثة، من حيث التقنيات الفنية، والأساليب المختلفة، وزوايا النظر للدخول في تشكيل وتكوين القصيدة الشعرية، وقد عمد الشاعر إلى عدم تجنيسها كمجموعة شعرية، تاركاً عملية التأويل إلى القارئ اكتشاف عملية البناء في هذه المجموعة الشعرية، إلا من إشارة في غلاف المجموعة تشير إلى نصوص السبورات، وهي ثمان وعشرون قصيدة، من أربع وتسعين قصيدة ضمتها هذه المجموعة، حملت عناوين السبورة مع موضوع النص الشعري، وقد كتبت بنفس شعري بحت مع تضمينها صوراً سردية انزياحية معبرة من خلال نقل المفردة الاعتيادية إلى مفردة انزياحية فيها جانب من السرد يميل إلى الحس الشعري أكثر من انتمائه إلى أي جنس آخر، لأن الرؤية الفنية الحسية الشعرية هي الغالبة، وهو أسلوب مبتكر من الشاعر نحو التغيير من أجل الخروج من النمطية والتكرار، وكذلك لإعطائه مساحة أوسع من الحرية في عملية نقل الحس الشعري الوهاج والتداعيات والمناجاة والذكريات التي مر بها الشاعر في وطنه وفي غربته ومنفاه، وهو تدفق متصل ومكثف وزاخر بالمعلومات التي تحولت إلى منظور شعري محسوس.

وكذلك أشار الشاعر في ثانية بأن هذه المجموعة الشعرية هي نص داخل نص، بينما أن المحتوى الذي يتضمنه الكتاب قصائده نثرية ذات حس شعري أخاذ، لكون الشاعر وسام هاشم شاعراً مارس كتابة القصيدة الشعرية لأكثر من اربعة عقود، الأمر الذي يجعله ملتصقاً بالعالم الشعري، الذي يجيد فيه كتابة القصيدة الشعرية بحرفية عالية.

وفي العتبة النصية الموازية، التي تسبق دخولنا إلى القصائد التي تحمل عناوين السبورات مع وحدة موضوع القصيدة، يقول الشاعر فيها :

“كل سبورة للمحو إلا سبورة حبكِ.

لهذا هي بيضاء ولهذا هي مضيئة، ولهذا الذي اكتبه فوقها يلتصق بها كريش يمامة”، وهذه العتبة النصية الموازية مأخوذة من قصيدة (سبورة حبكِ)، الذي يقدم لنا فيها حضور الحبيبة وطوافها معه في حله وترحاله وفي غربته ومنفاه:

من يستطيع أن يزرعني بلا طين ؟

سالتْ مدينة فبُللت مدينة .

في ليلي تتسكعين وشعركِ يتسكع على حقل روحي ،

في نهاري أتسكع بين شوارعك .

لا أعرف بالضبط معنى آخر للحرية بعد ضحكتكِ.

لو أن لي اسماً آخر لكنت لويته وصيرته شفاهكِ.

وفي قصيدة (سبورة معلقة بحبل) نطوف في أرجاء الماضي والحاضر، وهسيس الذكريات، ووجع الغربة، وأنين حنين الوطن:

“في المدرسة جرس

في باحة البيت مذياع يصرخ كثيراً بأسماء قتلى الدبابات،

كفاي الصغيرتان تديرانه نحو وجه فيروز والحليب الذي في صوتها.

والسبورة يشنقها حبل وتشنق أيامنا .

عندي ساعتان

واحدة لقضم الوقت وأخرى لضبط الهروب إلى خارطة باردة

وسبورة في آخر الثلج.

لقد استطاع الشاعر أن يجعل السبورة إشارة سيميائية واضحة، تتحول فيها تلك السبورة إلى شاشة سينمائية نشاهد من خلالها هذه المفردات الشعرية الانزياحية الحسية في عالم ساحر، غريب يبعث في النفس العاطفة الجياشة لنكون مع الشاعر وحياته وضياعه ومناجاته وغربته، وهذه الذكريات التي يستقطعها من مواطن مختلفة من مسيرة حياته.

وفي قصيدة (سبورة بغداد) نكون مع وقعً أكثر قسوة وحنين وأنين يثير الشجن، ويجعل القارئ يحلق في فضاء هذا النص، ليرى بغداد في الرؤية الفنية التي وظفت في متن النص:

طرقات بغداد هربت،

نصف سكانها بيض، والنصف الآخر بيض،

ليس في بغداد طرقات تؤدي ،

وليس فيها أعلام.

في الصباح ينادي المنادي، والناس لا يسمعون .

في الليل يئن المنادي والناس يئنون .

بغداد من شمع ولا عسل ،

في رائحة، لعلها من النبق، ولعل ظلال طرقاتها سدرة واحدة.

وهكذا وبعد اختيارنا لنماذج من النصوص الشعرية للسبورات، ننتقل إلى إضمامة جديدة من النصوص الشعرية، كتب الشاعر قبل الولوج إليها:

“لكل رجل شجرته، لكل امرأة فانوسها، الأغصان ملك عام نعلق عليها أرواحنا والفوانيس”

في قصيدة (طين الكتابة) يزداد الأنين والشجن والحنين، ومسحة شعرية حسية من الأسى، وتوق لماض ووطن:

لا أكتب عن السيف، فلست ابن خال الضليل،

ولا أكتب عن القنابل كلها .

أنا أكتب عن الرمل بقرب البحر والمطر يبلل روحكِ والنهار فوق مقبرة الجنود والأصابع وهي تلهو بعيداً عن المدينة

وعن طفل جائع امتص سنواتكِ من نافذتين، الحرب وشفاهكِ.

غداً……

سأكتب عن مدرستين وسيدتين تعبران شارعاً واحداً ومسرحية بلغتين،

ليس الآن لأني متعب من حساب خطواتي التي تخاف على التي لا تخاف.

وفي قصيدة (بقيا) نرحل إلى واحة من الصور والاستعارات الانزياحية لرؤية فنية هائمة في ملكوت الشعر وفضاءه:

منذ مطرين ونصف وجواد أسود في وجهه غرة بيضاء يحدق في وجهي ويبكي

لم تعد الكتابة تنام على سرير سوى الألم وريش التذكر.

لم يبق مني ما يكفي لترميم ما ليس مني ،

اشتبكت مع الصباح وغلبني

ومع الليل وغلبني

ومعكِ فغلبت نفسي

ثم ننتقل إلى إضمامة جديدة من القصائد الشعرية المطعمة برائحة السرد الشعري، كتب في مقدمتها :

” الحرب أقسى فوق الورقة اكتب ما يكتبني”

وفي قصيدة من هذه الإضمامة تحمل عنوان (حكمة الخائف) نتابع رؤيته الفنية لحالة الخوف وما تعلمه من مسيرة السنين:

تعلمت من أصدقائي الرسامين أن لا أرسم،

من الروائيين أن لا أقص حكايتي وحكايات الآخرين،

من صاحبة المنزل تعلمت لا أشتري منزلاً وإن كان على تلة،

من القتلة تعلمت أن لا أكون المقتول،

من الحدود تعلمت التحليق،

ومنكِ تعلمت عزلتي.

وفي قصيدة (حزنٌ مستعملٌ) يقدم لنا الشاعر رؤيته الفنية لحالات الحزن، بأسلوب متجدد:

أنا والريح اتفقنا على مقهى صغير نلهو به وبقبعات المارة، وهي تطيرها عن رؤوسهم وأنا أحصي الأحزان تحت القبعات.

وكلما طلب أحدهم من النادل قهوة ندسّ في الفنجان منصتاً يلتقط آخر ما يفكر به،

آخر النهار نحمل أكياس الأفكار ونبيعها، أنا والريح، بعلب حزن مستعمل كثيراً.

ثم ننتقل إلى إضمامة جديدة من القصائد الشعرية، كتب الشاعر في مقدمتها

“لا أعتقد أن هناك نصف وجه، أبداً أو نصف جسد، أبداً جزء كل شيء كله”

ونختار قصيدة (حكاية جنيتي) لنتابع رؤيته الفنية مع جنيته وشمس منتصف النهار

في هذا الإناء من خزف الخليل أطهو شوبان مع شمس منتصف النهار،

لو سألني عابر: أينك يا هذا؟

سأجيبه أنا في قلب ينادمني، والطير الذي من الهند أضاع الطريق إلى الهند وصار ينادمني على تلة.

سأقفز مرة أخرى،

أوشك أن أقفز،

أوشك أن أقفز،

يوشك شوبان أن يصل بولنداه ولم أصل دجلتي بعد.

وهكذا نكتشف أن من يمتلك خاصية الشعر، ويمارس كتابته، لا يمكن أن يغادره، لأنه جزء من كينونته وتكوينه، وإذا لم تكن هذه المجموعة شعراً، فكيف يكون الشعر إذن، حتى وإن كانت نصوصاً، فإنها تصب في رافد الشعر وعالمه، لامتلاكها كل مقومات القصيدة الشعرية الحديثة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة