استيقاظ النهر

مهند الخيكاني

بعد يومين من مشهد الجسر ، ذلك المشهد الذي رمت فيه الأم طفلين بأعصاب باردة كما وصفتها الكاميرات والأخبار وكلام الناس المهتاجة دون معرفة جيدة بالخبايا ، جفّ النهر للحظات بعد انتصاف الليل بقليل ، وشاهد سفّانٌ طفلين يعبران طريقا ترابية ارتفعت كما جسر صغير للمشاة من باطن النهر، طفلين أحدهما يبتسم والآخر يبكي وينوح ، وعندما وصلا الى الشاطئ ، توجّها الى الرجل وسألاه عن الذي حصل ، ولماذا هما وحيدان ومبتلان وممتلئان بالطين ؟ ، ارتبك الرجل وارتعدت عظامه ، وشك من هول الصدمة أنه خسر منطقه وتلبسه الوهم والخوف ، الا أن نواح الطفلة كان شديدا ، لم يكن بتلك الشدة في الحقيقة ، إنما الليل قرب الأنهار ليل مختلف ، غير الليل في مكان آخر ، وبينما الأكبر سنًّا ظل يتساءل ويقلب عينيه بفضول الذي أخذ يدرك تدريجيا غرابة الموقف ، ظلت الصغيرة تنادي : اريد ماما .. وين ماما . وكانت في كل مرة تقول ذلك ، يكبر الصبي عشر سنين ، بينما كلما سمع الرجل وأنصت بكل عواطفه لذلك السؤال ، بكى وظهرت شيبةٌ في رأسه ، حاول الرجل تدارك نفسه ، فسأل الطفل الفضولي المرتجف : ما اسمك ؟ .. فلم يجبه وكان يبدو عليه الضياع والانغماس في ترقب الظلمة ، ثم سأله عن مكان سكنه ، لكنه لم يستجب للسؤال أيضا . وما أن التفت الرجل قليلا وهو يقرأ الآيات القصار والطوال والأدعية دون أن يغادره الارتجاف ، حتى اختفيا من أمام عينيه.

حكى الرجل ما رآه بالتفصيل لزوجته وعياله وأصدقائه ، وكل واحد منهم منحه تفسيرا يختلف عن الاخر ، لكنهم أجمعوا على أن الرجل من أهل الله ونظيف السريرة ، وعطوف كما ينبغي لمؤمن حقيقي رقيق القلب ولذلك تأثر بما رأى ، وقد اقتنع بذلك . مضى أسبوع تقريبا لما حصل مع الرجل ، وفي وقت يقرب الفجر قبيل الأذان ، شاهد السفّان كيف استيقظ النهر من سباته ، واقفًا على عمودين أو ثلاثة من الماء ، حاملا فتاةً مراهقةً على موجةٍ مُحكمةٍ وشابًّا على موجتين ممتلئتين تسندانه ، فيما بقي الرجل متيبسًا في مكانه ، وعيناه شاخصتان الى الاعلى وشفتاه تتمتمان بالآيات دون احتساب لبداية أو نهاية ، إذ اختلطت الكلمات ببعضها ، فأنزلهما قريبا من الرجل حيث يرقد على مسافة من مكان الصيد والقارب . ألقيا التحية عليه ، وسألاه مع بعضهما : ماذا حصل لنا يا عم ؟ ولماذا لا نستطيع مغادرة النهر ؟ ، وبقيا ينتظران جوابا شافيًا بعينين مغرِقتين في الاصرار والتصميم على معرفة الحقيقة ، لكنّ الرجل بارتباكه نفسه وخشيته من المسِّ أو أن يكون الشيطان قد اخترق قلبه وعقله وأخذ يلهو بهما ، صار يشيح بوجهه الى حيث توجد الظلمة الداكنة ، ومن ثم هو هروب من الإجابة أيضا .

تأزمت الحال النفسية والجسدية للرجل ولم يعد يقوى على تحمل هذه المفاجآت التي تركت أثرها يوما بعد يوم على صحته ، وحاول إخفاء المرات المتتالية التي يظهر بها الولدان عن أهله وأصدقائه ، خصوصا بعد أن قرأ في أعينهم نظرات الشك اللماحة الى جنون أو خلل في رأسه ، وهذا غير أن بعض رفقائه صاروا يخشون الاقتراب منه والخوض في عالمه المجهول الهزيل .

وفي أحد الأيام نصحه أحدُ الشيوخ من معارفه في الحيّ وهو رجل محسوب على التقاة الصادقيّن الذين نقرأ عنهم ولا نراهم الا نادرا ، بأن يقول لهما ما يريدان إذا ما ظهرا في المرة القادمة ، الا أن الرجل لم يهتم لتلك النصيحة وتجاهلها في لحظتها ، وأخذ عهدًا على نفسه بأن يكتم الامر ولا يقول شيئا حتى وإن كان مجرد تلميح .

على فراشه وهو يحتضر ، وكان احتضاره مبكرا وغير متوقع للقريبين منه ، سأله أحد أصدقاء عمره المخلصين : يا أخي حيرتنا ، لماذا لم تقل لهما ما حصل ؟ نريد أن نفهم ، ربما لم تصل بك الحال الى هذا المآل لو فعلت ما عليك فعله منذ سنين ؟ .

تبللت عيناه قليلا ، وارتسمت دمعةٌ جرّت خطًّا على خدّه ، سارحةً الى جانب الوجه ، وقال لصديقه الموجوع بصوت تتدفق عبره الكلمات بصعوبة :

لو أنني قلت لهما ما جرى لاتهماني بالكذب . لا يوجد ولدٌ في كل العالم يصدق أن أمّه تفعل ذلك ، حتى إذا شاهدها بعينيه ، هذه أشياء لا تُحكى يا صاحبي لا تُحكى .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة