معمارية السرد في مروية طريق البلقان للأديب حسن عبد راضي

                                     د.عمار إبراهيم الياسري

لم تنفك سرديات أدب الرحلات من التحولات البنيوية التي شهدتها الحداثة الروائية والقصصية ، فالتنوعات الصوتية للرواة والتلاعب بالأزمنة سواء كان بالسرعة أم الإبطاء والأنساق السردية مثل السرد المتناوب والمتوازي والدائري وغيرها كانت مائزة فيها ، فالذات الساردة تسعى للمغايرة والحداثة مهما كانت بنية الشكل الذي تعتمده في مشغلها الإبداعي ، ولو تابعنا العديد من نصوص أدب الرحلات مثل سمات الأخضر المتألق للروائي جاسم عاصي وقمر أبيض بحر أزرق للروائي حسن البحار والحلم البوليفاري للشاعر والرحالة باسم فرات نلحظ التحولات البنيوية للحداثة فيها بشكل مواز للرواية الحديثة.

ولم تختلف مروية طريق البلقان للأديب حسن عبد راضي عن سابقاتها ، فقد سعى الناص إلى أفراد معمارية سردية موازية للمتن الحكائي ؛ فعلى الرغم من أن رحلة الهجرة التي بدأت من بغداد مروراً بتركيا ثم اليونان ثم مقدونيا ثم صربيا ثم كرواتيا ثم النمسا ثم بلد الاستقرار المانيا كانت على وفق طروحات منظر الواقعية الالماني الطبيعة وقد تلبست بالفعل إلا أن الراوي المشارك في الأحداث لم يكتف بالقبض على الحكاية فقط ؛ بل عمد إلى توظيف تقانات السرد الحديثة في مبناه السردي ولو تابعنا الصفحات التاسعة والثالثة عشرة والحادية والأربعين نلحظ تقانة مونتاجية كسرت يقين السرد الحاضر تحت عنوان (مقطع عرضي) أعتمد فيها السارد تقانة الاسترجاع الزمني ؛ مما جعل المتن السردي يقع تحت نسقين ، الأول زمن الحدث الذي دون فيه سفر الرحلة والثاني ماضوي وصف فيه ذات الأمكنة التي تدور بها الاحداث بنسقية السرد المتناوب ، وهنا نلحظ  أن السرد المتناوب لم يقتصر على التداخل النصوصي بين الحكايتين ؛ بل جعل من حكاية المقطع العرضي على وفق تقانة استرجاعية ، ولو تابعنا الصفحة الثالثة عشرة حينما وصف الخطوط الناقلة في مطار أتاتورك ” بل لك أن تقف على الحزام الناقل وهو يتحرك بك قدما ، أو أن تمشي فوقه فتتضاعف سرعتك ” ثم ينتقل في الصفحة ذاتها إلى المقطع العرضي حينما وصف الأحزمة الناقلة في مدينة الطب وقت افتتاحها في ستينات القرن المنصرم ” كان من ضمنها تزويد المدينة بأحزمة ناقلة لتسهيل انتقال الأطباء والمرضى والممرضين ” ، نلحظ السارد هذه المقاربة المكانية لم يكتف في المغايرة النسقية للسرد بل عمد إلى مقاربة مكانية بين شاخصين مكانيين الأول كان مألوفاً مزدهراً بالحداثة قبل مطار أتاتورك بعقود لكنه بفعل جنون ساسته تحول إلى مكان طارد تسوره الخرائب ويظلله دخان الحروب.

ولم يعتمد السارد على توظيف المونتاج المنتاوب بين نسقين سرديين ؛ بل شظى النسق الواحد على زمنين مختلفين ؛ ولو تابعنا الصفحات الرابعة والخمسين والسبعين والرابعة والسبعين نلحظ نسق الاسترجاع كان ملازما للزمن الحاضر ؛ إذ يقول في الصفحة الثالثة والسبعين حينما يصف شوارع تسالونيكي ” ولشد ما أبهرتني شوارع تسالونيكي بأناقتها المفرطة وتناسق أضوائها ومتاجرها وأضواء سياراتها وحركة الناس فيها ” ثم ينتقل في الصفحة الرابعة والسبعين إلى عقد مقاربة مكانية مع شارع ولي عصر في مدينة  إيرانية زارها موفداً عام 2014 ” وكان من أجمل الشوارع التي رأيتها في حياتي ، فهو غير مستو بل يتصاعد تدريجياً صوب نهايته الشمالية ، وتصطف على جانبيه في توزيع منتظم للغاية أشجار باسقات” ؛ فالسارد هنا حقق مآلات أدب الرحلات إذ لم يكتف بوصف ما لاقاه من مشاق السفر ؛ بل عقد مقاربات مكانية زاخرة بالمعلومات الجغرافية ، فعين الرائي عين باصرة تستكشف وتنقب وتستذكر وتقارن في رحلتها من أجل شحذ ساردية المتلقي في لملمة الأزمنة من جهة وتشكيل صور ذهنية للأمكنة من جهة أخرى.

لم تقتصر تقانات السرد على ما تم رصده سابقاً ، بل وظف السارد تقانات زمنية مثل الإبطاء والتسريع حسب بنية الحدث ، ففي تركيا التي تنوعت فيها طرق المغادرة ما بين سمير وأبو دانيال وصابر السوداني ما جعل السرد يعتمد الإطالة حينما تم الحفر في جوانيات الشخصيات بعد تعرضها إلى محاولات النصب والاحتيال وهي تكابد وحشة الطريق وألم الغربة وهذا ما نلحظه في الصفحة الثالثة والخمسين حينما تشاغل السارد المشارك في الأحداث مع نفسه وسط تساؤلات وجودية قاهرة ” هل يمكن للمرء أن يهاجر في اتجاهين في آن؟ ها أنا أفعل ، فجسدي يركب هذه الآلة المسماة “سيارة” الآبقة من عقال المكان ” ، فالتشظي الوجودي تجلى من خلال التساؤلات والوصف والمشاق التي تعرض لها المهاجرين ، فهذه الوقفة الزمنية التي تجلت من خلال التساؤلات أعطت لساردية المتلقي مساحة تخيلية من جهة واستراحة من التنامي الحدثي من جهة أخرى ، في حين كان توظيف الحوارات والاستشهادات الشعرية بنية مشهدية ساهمت هي الأخرى في الإبطاء المشهدي ، أما التسريع السردي الذي أنمازت به المروية في أماكن الأزمنة الميتة ، وتجسد من خلال تقانتي الخلاصة والحذف ، فالخلاصة كانت واضحة في الصفحات التي تناولت دولتي مقدونيا وصربيا ، إذ أكتفى السارد بخمس من الصفحات دون وصف كبير أو أزمات درامية ، والحذف تجلى من خلال دمج أيام أو ساعات لم تكن ذات ضرورة سردية وهذا ما تجسد في أماكن عديدة منها الصفحة الثانية بعد المائة في مدينة هامبورج الألمانية حينما قال ” بعد مسير ساعتين تقريبا وكنا قد دخلنا الأراضي الألمانية توجهت أنا وعلاء وبشار إلى عربة المطعم ” ، هنا حذف السارد ساعتين ليس لهما ضرورة سردية مما ساهم في اختزال زمن الحكاية.

حسن عبد راضي راو عارف بتقانات السرد الحديثة ما جعل المعمار السردي لمروية طريق البلقان التي تعد من أدب الرحلات قريبة جداً من تقانات السرد الروائي التي تشد المتلقي إلى بنيتها منذ مهاداتها الأولى.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة