رواية “إعجام” بوصفها ديستوبيا عراقية

فاضل ثامر

رواية “إعجام” الصادرة عام 2002 هي الرواية الأولى للروائي العراقي المغترب سنان إنطون، الذي رفد المكتبة العربية بعدد من الروايات المهمة منها: ” وحدها شجرة الرمان”(2010 ) و”يامريم”(2012 ) و”فهرس” (2016 ).

ونكتشف منذ البداية أن الرواية عبارة عن مخطوطة عثرت عليها مديرية الأمن العامة في بغداد في ملفاتها (ص10)، واحالتها الى السيد طلال أحد المتخصصين لتنقيطها وإزالة الاعجام عنها، بعد أن ظهر انها قد كتبت بدون نقاط، أي انها “معجمة.  ومن هنا جاءت دلالة العنوان، والذي حاولت العتبة النصية الاستهلالية المقتبسة من معجم “لسان العرب لابن منظور، (ص7) أضاءتها لغوياً ومعجمياً   وبذا فالرواية، بكاملها، عبارة عن مخطوطة، مؤطرة برسالتين من دائرة الأمن، الاستهلالية منها تحيل المخطوطة لغرض تنقيطها وازالة عجمتها، والختامية رسالة جوابية تنبئ عن إنجاز المهمة من قبل الخبير طلال أحمد الذي قال عنها بأنها عبارة عن خواطر متسلسلة ومشاهدات واستذكارات غير منطقية لحوارات كتبها أحد السجناء ” (ص 125 ) واشتكى من عجمتها واساءتها للقائد.

ومعنى هذا أن الرواية تنتمي الى نمط الرواية الميتاسردية بسبب اعتمادها كلياً على المخطوطة، حيث تتحول الوثيقة الواقعية Doument الى عمل تخييلي إبداعي، يتخذ من السرد أداة له.

وحركة الرواية، مكانياً وزمانياً، محدودة الى حد ما. فهي تدور حول سيرة طالب مسيحي جامعي في قسم اللغة الإنكليزية في إحدى الجامعات ببغداد، أحب القراءة والكتابة وراح ينشر بعض خواطره في مجلة “اليوم السابع”.  وبسبب نزعته المتمردة والاستقلالية، رفض الانتماء الى حزب السلطة، وعدم مشاركته بما يكفي، في أنشطة الحزب التعبوية التي تمجد القائد والحزب والحرب، فقد جرَّ ذلك عليه سلسلة من المشاكل منها اقتياده الى دائرة الأمن العامة وتعرضه الى الاستجواب والتعذيب والاغتصاب. وتبدأ نقطة التوتر من اللحظة التي قدم له فيها (أحمد)،  أحد المحققين، رزمة أوراق طالباً منه أن يكتب اعترافاته أو ما يشاء. ونكتشف إن بطل الروائي هذا واسمه (فرات) بطل إشكالي، لعدم قدرته على الاندماج في هذا الجو الكابوسي التهريجي.  ولذا فقد بقي متردداً بين الكتابة وعدمها، لكنه كما يبدو اتخذ قراراً بأن يكتب عن كل ما تعرض له من انتهاكات، معتمداً على ذاكرة مشوشة ومضطربة تعرضت، كما هو واضح، الى الارتجاج بفعل التعذيب والضرب على الرأس، لذا باتت ذكرياته  ذات طبيعة هذيانية، تخلط بين الواقعية والتخيلية.

” أشعر بألم شديد في مؤخرة الرأس، بفعل الضربة بعد مقاومتي. “(ص36 ).

كان الجانب الواقعي من ذكريات البطل يرتبط باستذكار جدته العجوز التي تكفلت بتربيته بعد وفاة أبويه في حادث سيارة، وكذلك حياته اليومية في الشارع والجامعة.

أما الجانب التخييلي فيرتبط جزئياً بعلاقته بزميلته في القسم (أريج) والتي يختلط فيها الواقعي بالخيالي. فحركته داخل الكلية بصحبة أريج تمثل الجانب الواقعي، أما زيارته لبيتها ومطارحتها الغرام، فهو أمر تخيلي، لان العلاقة بين الاثنين ظلت محدودة الى حد كبير. كما يرتبط بالجانب بعض الأحلام والرؤى الكابوسية التي كان يراها، فيتخيل أنها واقعية .

لذا فالبنية المكانية هي مدينة بغداد، خلال ثمانينيات القرن الماضي عندما كانت الحرب العراقية الايرانية مشتعلة، وتحتل الجامعة وبيت الجدة مكانة خاصة ويمكن ان نصف هذه البنية المكانية بالمكان الأليف، حسب تقسيم باشلار في “شعرية المكان”، أما أقبية التعذيب في الأمن العامة فتمثل المكان المعادي. وكانت الحركة بين هذين المكانين تتم بالتناوب، أو التعاقب أحياناً، من خلال لازمة مفصلية متكررة تؤشر الانتقال المفاجئ من المكان الأول الى المكان الثاني هي عبارة:

” استيقظت لأجد نفسي هنا(ك)” (ص 59 )

– ” استيقظت لأجد نفسي هنا (ك) غارقاً بلزوجة ساخنة” (ص 42 )

– “استيقظت لأجد نفسي هنا (ك) ” (ص 71 )

وربما يلمس القارئ بعداً فلسفياً في مفهوم الـ(هنا) و(الهناك)، لكني اعتقد أن الحمولات الاساسية تذهب الى النقلة المكانية، ذهنياً وسردياً. ونكتشف أن البطل نفسه كان مولعاً بالتلاعب الحر باللغة، ولذا فقد كتب يقول:

” هنا..ك.هنا وهناك. هنا أو هناك. هناك هناك. هنا كهناك. هناك كهنا.. ك. الكاف حرف تشبيه.”(ص 74 )

ومن المعروف إن (هنا) و (هناك) وكذلك (هنالك) هي أسماء إشارة للمكان تدل على الظرفية. حيث تشير (هنا) الى المكان القريب ،و(هناك) للمكان البعيد، أما (هنالك)، فتشير الى المكان الابعد. وربما تمثل ثنائية الهنا/ والهناك مقابلاً لثنائية الداخل / والخارج، حيث يرمز الهنا الى دائرة الأمن العامة وأقبيتها المعادية، بينما تومئ الهناك الى العالم الخارجي الاليف. كما أن الحركة الزمانية، هي الأخرى محدودة في حدود أقل من عام دراسي من سنوات ثمانينيات القرن العشرين تحت ظل حكم شمولي وكابوسي هو حكم نظام صدام حسين. وقد توقفت هذه الحركة كلياً بعد تغييب أو تصفية بطل الرواية من قبل أجهزة النظام الشمولي البوليسي، ولم يبق سوى رزمة الأوراق التي كتبها البطل بطريقة مشوشة وعبثية، تطلبت من مسؤولي الأمن إحالتها الى خبير لغوي لازالة العجمة عنها، وتنقيطها. ونتوصل لاحقاً الى أن ميل البطل الى كتابة الكلمات دونما نقاط، كانت عملية مقصودة دافعها الاحساس بعبثية الاشياء ولا معقوليتها، مع رغبة قوية للسخرية والنقد السياسي الصارم للنظام الدكتاتوري الكابوسي آنذاك.

ويبدو أن البطل إنما كان يحاكي زميله (علي) في الجامعة الذي كان يقدم له بعض الخواطر غير المنقطة:

” واستيقظت لأجد نفسي (هنا(ك). تستلقي الاواق أمامي مبعثرة آه ياعلي ! اين انت الآن؟ هل زرتني في كابوسي لتشجيعي على أن اكتب، مثلما كنت أنت تكتب؟ كنت تعطيني خواطرك لأقرأها، وكنت أجد صعوبة في فك طلاسمها لخلوها من النقاط.” (ص 20 )

كما ترتبط فكرة الاعجام لديه بذلك الحلم الكابوسي الذي داهمه في أقبية الأمن، حيث رأى أشجاراً عالية وكثيفة “أغصانها حروف تتدلى الى أسفل على مدِّ البصر.” (ص 34 ) ثم تهب عاصفة تسقط النقاط عن حروفها:

“سقطت كل النقاط، وظلت الحروف.” (ص 34 )

ولذا فعملية الإعجام لا تخلو من فعل رض عصبي، مع درجة معينة من درجات الوعي، كان يلجأ فيها فضلاً عن اعجام الحروف، الى التلاعب المقصود بكتابة بعض الكلمات للسخرية منها:

” القاعد، بدل القائد

الهرس، بدل العرس

بعصيون بدل بعثيون

الديمضراطية بدل الديمقراطية.” (ص 35 )

لقد كان التناوب بين الداخل والخارج سلساً ومبرراً، وكانت الذاكرة المعطوبة هي ملاذ البطل للهرب من انغلاق الداخل الى شفافية فضاء الخارج وانفتاحه.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة