(منسي) سيرة ذاتية لشخصية إشكالية.

آخر ما كتبه الطيب صالح

شكيب كاظم

يكاد الروائي السوداني الطيب صالح ( ١٩٢٩-٢٠٠٩) يعد من أصحاب الواحدة، واعني بذلك ما تعورف عليه في تاريخ الأدب العربي، بالشعراء الذين عرفوا بقصيدة واحدة، واشتهروا من خلالها، وفي الذاكرة ابن زريق البغدادي- وإن كنت أقف موقف الشاك المرتاب من هذه المقولة– فلقد دخل الطيب صالح عالم الرواية، دخول الكماة الموهوبين فجلب إليه الأنظار في الوطن العربي كافة، ووقف عنده كبار النقاد العرب مبشرين بمنجزه الرائع (موسم الهجرة إلى الشمال) وفي الذاكرة كتابات الناقد المصري رجاء النقاش (٢٠٠٨) فضلاً عن كتابات الناقد السوري، الذي صمت دهراً طويلاً؛ محيي الدين صبحي (؟!).

هذا العمل الروائي الشاهق، الذي لا يريد المبدع، خدش جماله وابهته وسطوعه، لعله كان وراء كسل أو تكاسل هذا المبدع الرائع الجميل، إذ ما أنتج بعد (موسم الهجرة إلى الشمال) سوى أقاصيص وروايات قصيرة لا تكاد ترقى إلى مستوى موسم الهجرة.

ترى هل هي فطرة فُطِرَ عليها الطيب، إذ قرأت عنه إنه كان لا يهتم حتى بقراءة ما يكتب عنه، ويوم يسأله أحد أصدقائه هل قرأت ما كتبه عن روايتك الناقد رجاء النقاش في مجلة (الدوحة)؟ أجابه نعم علمت بذلك فهو (زول) طيب! وإذ يسأله هل قرأت ما كتبه؟ كان جوابه، لم أقرأه حتى الآن.

أعيد السؤال هل هي جِبِلّة جبل عليها الطيب، أم أن روايته السامقة إبداعيا كانت وراء هذا التكاسل عن كتابة ما يوازيها أو يصاقبها، وبالحري أن يتجاوزها؟!

هل لعمله الطويل ومنذ سنة ١٩٥٣، وكان في بواكير شبابه، إذ ولد في قرية الدية في الشمال الأوسط من السودان في صيف سنة ١٩٢٩؛ هل لعمله في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانيةb.b.c سنوات طويلة، ومن ثم عمله في اليونسكو، وأخيراَ استفادة دولة قطر من خدماته، حيث أوكلت إليه إدارة وزارة الإعلام، ثم مستشاراً لوزير الإعلام القطري، سبب في قلة المنجز الإبداعي لهذا القلم الرشيق الأنيق؟

لقد قرأت المنجز الإبداعي للطيب صالح كله، عدا عمله الأول وعنوانه (نخلة على الجدول) إذ لم أجدها أو أسمع بها، ويبدو أنه طوى عنها كشحا ولم يعد طبعها، ربما لضعفها أو لأسباب أخرى تعود إليه، هذه الخواطر انثالت على ذهني وأنا أقرأ عمله السيري المكثف، فالطيب لا يدلق كلامه على عواهنه، بل يحسب لكل كلمة حساباً، هذا العمل الرائع الجميل، الذي يسرد من خلاله ماجريات حياة صديقه وزميله في هيئة الإذاعة البريطانية، ومن خلال هذا السرد، نقف عند شذرات من حياته هو، ففي كتابه (منسي: إنسان نادر على طريقته!) يقدم لنا صورة قلمية حياتية لهذا الشخص الإشكالي الموهوب، الذي يستطيع أن يلبس لكل حال لبوسها، وكأني إذ اقرأ في هذا الكتاب الممتع الذي أصدر مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي في أم درمان بالسودان، طبعته الثانية في شباط/ فبراير ٢٠١٠، كأني استحضر صورة الشخصية العراقية الإشكالية ( يونس بحري).

منسي هذا الذي أكاد أتذكر اسمه، يوم كانتb.b.c تقدم مسرحيات عالمية وتمثيليات، يوم كان يتولى إدارة القسم العربي مستر (ووتر فيلد) الذي قرأت إشادات بشخصه وشخصيته، وجعل القسم يتألق ويستقطب أسماع العرب في وطنهم العربي، حتى إذا تقاعد، جاء مدير عربي، فأتى على منجزات ذلك الإعلامي البريطاني المهني، أقول أكاد أتذكر اسم الممثل (منسي يوسف بسطاوروس) منسي هذا الذي يغير اسمه مثلما يغير ربطة عنقه، إذ عرف بأسماء عدة منها (مايكل جوزف)  وإذ يشهر إسلامه! يتخذ لنفسه اسم (احمد منسي يوسف)!

كيف جلب إهتمام بيكت؟!

يغير اسمه مرات ويغير دينه غير عابىء بشيىء، ويتحول من حال إلى حال فإذ نشأ حمالا عتالا، وعمل ممرضا، ومثل على مسرح الحياة ومرسحها، وقدم مسرحيات وتمثيليات، وحصل على أعلى الشهادات، ومات في انكلترة وفي فيلته أعداد من أغلى السيارات، وبركة سباحة وإصطبلات خيل، واستطاع بأريحيته وتلقائيته ومزحه أن يفك عزلة الكاتب المسرحي الإيرلندي الشهر صموئيل بيكت (١٩٨٩)، صعب المراس، المنطوي على ذاته وأفكاره وكتبه وكتاباته، ويجد ، وياللغرابة في (منسي) إنسانا يجذب اهتمامه، ويستحق أن يقضي الساعة أو الساعتين معه، لا بل استطاع أن يقتطع من وقت ملكة بريطانية اليزابيث الثانية، دقائق وهو يتحدث معها في مواضيع شتى، والملكة تداري حرجها، بعد أن حيته حسبما تقتضيه الأصول والمراسم، فجأة يقول لها ومن غير أن يخاطبها بلقب (صاحبة الجلالة) كما تقتضي الأصول!

– اسمعي، لا بد إنك تجدين هذه المناسبات مملة جداً. ودخل معها في حديث طويل عن مهامها ملكة، وتأخر الصف، ورؤساء الوفود يعجبون من هذا الذي أعطته الملكة كل هذا الوقت، إذ يقتضي البروتكول أن يسلم رؤساء الوفود على الملكة فتقول لهم بضع كلمات على سبيل المجاملة، ثم ينصرفون، ولا يستغرق اللقاء أكثر من دقيقة. تراجع ص١٠٢ص١٠٣.

لا بل تبلغ به الوقاحة أو الطموح، وهو الممثل فقير الموهبة، أن يحاول أخذ الدور من الممثل المصري الشهير عمر الشريف، الذي بدأ وقتها يشق دربه نحو النجومية العالمية، يسرق أو (يلطش) حسب تعبيره الدور في فيلميه (لورنس العرب) و (دكتور جيفاكو).

عندما أحرج المؤرخ توينبي

ويوم تدعو جامعة أكسفورد البريطانية العريقة، فيلسوف التاريخ ارنولد تويني (١٩٧٥) للحديث عن القضية الفلسطينية، ومعروف للباحثين موقف توينبي المؤازر للحق الفلسطيني، ويحضر محاضرته تلك عرب ويهود، وتحدث عن الأذى الذي أوقعه الأوربيون باليهود، في حين وجدوا التسامح لدى العرب والمسلمين ولاسيما في الأندلس، حيث أطلقوا العنان لطاقات اليهود.

صفق الحضور لتوينبي وران على القاعة صمت، قطعه منسي فجأة، مديراً ظهره لتوينبي مواجهاً جمهور الحاضرين، مُقَوّلا توينبي مالم يقل، مخاطباً إياه: إنني استمعت إلى محاضرتك القيمة باهتمام بالغ، ووجدت فيها.. وجدت فيها أشياء تدعو للتفكير (..) إنني دهشت حقا أن أسمع مؤرخاً عظيماً مثلك يقول إن العرب طوال تاريخهم اساؤا معاملة اليهود.. واضطهدوهم.. وعذبوهم، الأمر الذي يوقع هذا المؤرخ العلمي المتوازن، في حيرة شديدة، ترى هل أساء التعبير، هل ما استطاع إيصال أفكاره إلى جمهور المستمعين؟!

منسي، أو احمد منسي يوسف، اومنسي يوسف بسطاوروس، أو مايكل جوزف إذ تسمى بهذه الأسماء كلها في أوقات متفاوتة، المصري القبطي، الذي تخلى عن نصرانيته وقبطيته، لِيُسْلِم ويتزوج امرأة مسلمة من الجزيرة العربية، شخصية ميكافيلية عابثة، لا يقف أمام توجهاتها وطموحاتها غير المحدودة، وازع أو كابح، أبقى الطيب صالح سيرته، التي هي ليست سوءا خالصا، بل فيها وقفات شاخصات، فيها الطيبة والمودة، والصداقة الخالصة والدفاع عن قضايا العرب، ولاسيما قضية فلسطين، هو الذي لا يعرف عنها شيئا- كما يقول- لكن ثقته بنفسه، ومواهبه الكامنة تتفجر عندما يجِدّ الجد.

مات منسي، ولا يعرف دينه على وجه التحديد، فإذ أوصى بحرق جثمانه، مما يوقع أسرته وأبناءه في حرج، فتستنجد الزوجة السعودية الساكنة في الرياض، بوزارة خارجية بلدها، فتسارع الوزراة بالتدخل، ويدفن منسي وفق شعائر المسلمين، في حين أقام أهله بمصر القداس على روحه في الكنيسة القبطية!

قال الطيب صالح: ورغم حزني عليه فقد ضحكت. قلت هكذا (منسي) لغز محير في حياته ولغز في مماته. لقد أربك الناس حوله وهو حي، وها هو يربكهم وهو ميت. كانت الحياة بالنسبة له نكتة كبيرة وضحكة متصلة لا تنقطع” ص ١٠ ص ١١

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة