الرثاثة في السياسة

نهاية السبعينيات من القرن المنصرم شهد العراق حملة واسعة ومنظمة لاجتثاث وسحق لا المخالفين لسياسة وفكر ما عرف بـ “الحزب القائد” وحسب بل شملت الحملة كل ما يمكن ان يكون مشروعاً مستقبلياً لذلك الاختلاف المحتمل، أي وضع حد نهائي لكل اشكل المعارضة السياسية والفكرية والثقافية لحقبة “القائد الضرورة” والذي انتشل بعد ربع قرن مذعورا من جحره الاخير. آثار وتبعات ذلك العمل الاجرامي والهمجي، ما زالت تلقي بظلالها المدمرة على مشهد عراق ما بعد “التغيير” بالرغم من مرور 17 عاماً على زوال النظام المباد. احدى اهم الظواهر التي نتناولها في هذا المقال هي؛ الطفح الواسع لـ “الرثاثة في السياسة” ولسعة الموضوع وتعدد تجلياته، فسيقتصر اهتمامنا بموضوع الكتابة والتنظير والتحليل في الشأن السياسي، والذي تم استباحته بشكل فاحش من قبل قطاعات واسعة ومخلوقات لم يعرف عنها قبل 2003 أي اهتمام يذكر بهذا الحقل الذي يعده المعلم الاول أرسطو سنام الاهتمامات الانسانية. يمكن فهم مغزى كل تلك الهرولات الجمعية والفردية صوب ذلك الهم (الشان السياسي) والذي حجر عليه طويلا زمن “جمهورية الخوف” كما اشرنا، لكن الخطر يكمن في من تنطع لمهمة تلبية مثل تلك الحاجة الحيوية لمجتمع اغترب عن الهم السياسي لعدة عقود.
لقد وجدت المخلوقات التي اشرنا اليها (كتبة الشأن السياسي)، في الاحوال والاوضاع الراهنة ولا سيما ضحالة الوعي والخبرة في هذا الشأن، الذي خلفته وراءها اربعة عقود من الهيمنة المطلقة للنظام التوتاليتاري، كل ما تحتاجه كي تمرر بضاعتها (السياسية والفكرية) الرثة، حيث الغالبية المطلقة من المتلقين لا حول لهم ولا قوة (بين من لا يفك الحرف استهدفته المنابر السمعبصرية، وآخر يفكه بشكل مشوه زادته ضياعا وسائل اعلام ما بعد الفتح الديمقراطي المبين). عندما نتمعن في جذور غالبية هذه الشريحة المتطفلة على هذا الحقل الحيوي (السياسة) نجدها تنحدر غالبا من المنتسبين لنادي الشعراء والادباء والمهتمين باللغة العربية، حيث يفترض غير القليل منهم؛ ان قدرتهم على تطويع الديباجات اللغوية ورصفها مع بعضها البعض الآخر، يمنحهم الحق في استباحة لا السياسة وحسب بل كل ما تميل اليه “النخب” والحشود من علوم وفنون.
بمقدور العبارة المشهورة “الشيطان يكمن في التفاصيل” الاطاحة بقسم كبير من المساحيق الغليظة التي تتستر خلفها الملامح والقدرات الفعلية للمتطفلين على هذا الحقل الحيوي. ومع جهد بسيط في البحث عن سيرهم الذاتية وتجاربهم العملية، نجدها لا تخلو من اي نشاط جاد ومسؤول ومواقف شجاعة في هذا الميدان وحسب، بل نجد البعض منهم قد جاء اليه من نادي “المعطوب والمذعور” وفي ذلك يمكننا معرفة حجم البؤس والرثاثة التي انحدرنا اليها برفقة هذا الحطام من البشر و”الكتابات” والقيم. من دون “التفاصيل” ولا سيما منها الاقرب الى الحدث؛ لا يمكن الحديث عن ظهور كتابات جادة ورصينة تتناوله وعلاقته مع الاحداث ذات العلاقة. بالاضافة لذلك يعج المشهد الراهن بصنف آخر تورط بهم النشاط السياسي والحزبي، وهم وبالرغم من وصولهم لمرحلة “ارذل العمر” الا ان كتاباتهم لا تقل خطورة وانعدام للشجاعة والمسؤولية عن الاصناف التي اشرنا اليها، حيث تفتقر سيرهم الذاتية لاي موقف نقدي وشجاع تجاه ما ارتكبوه كأفراد وجماعات من مواقف وسياسات هوجاء ومدمرة انعكست وبالا على حاضر ومستقبل وطن استفردت به قوافل الرثاثة من كل صوب وحدب…

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة