عاطف أبو سيف
تصعب الإجابة عن السؤال السابق؛ لصعوبة فهم حقيقة ما جرى خلال العقد الماضي، الذي يصلح أن يكون عقد الثورات العربية المعاصرة. وترتكز الإجابة على الضفة التي نقف فيها من النهر ونحن ننظر إلى الأحداث. فالأحداث المتسارعة التي جرت في العالم العربي، مع نهاية العام 2010 وبداية العام 2011، بعد إحراق المواطن التونسي بوعزيزي لنفسه، قادت إلى مآلات مختلفة وأعادت تشكل الدولة في المنطقة العربية بطرق مختلفة. ويصعب وضع تصنيف واحد لتوصيف هذه النهايات، لكن المؤكد أنها تختلف في أنماط عديدة وتتوافق في جوانب عديدة أيضاً. ولم يعد من المبكر دراسة تلك الظواهر الاحتجاجية التي اندلعت في العالم العربي وتأثيرها على بنية الدولة، وحقيقة ما جرى من تحولات في هذه البنية. والأهم من ذلك، والذي لن يغيب عن البال، التدخلات الخارجية في هذه الثورات.
لكن يبقى السؤال، عند قراءة ما جرى: هل الحالة العربية شهدت تحولات ديمقراطية حقيقية، بمعنى: هل كانت ثمة ديمقراطية مفقودة تم العثور عليها فجأة؟ لم تكن عمليات الانتقال للديمقراطية عمليات سهلة وسلسة في أي تجربة سابقة… صحيح أنها مرت في الكثير من الأحيان بلا دماء، لكنها لم تكن موضع إجماع؛ إذ إن القوى المناهضة والخاسرة من عمليات التحول كانت تقاوم حتى الرمق الأخير. وفي حالات عديدة سعت النخب السابقة للتكيف مع الواقع الجديد من أجل عدم الخسارة الكاملة والاحتفاظ ببعض مواقعها السابقة وفق شروط المرحلة الجديدة. وهذا طبيعي، لكنه عنى في نهاية المطاف نجاح الرؤية والتوجهات الديمقراطية.
بعد قرابة عقد من الزمن، يصعب الحديث عن الديمقراطية في المنطقة العربية. يصح الحديث عن مقاربات للوصول إلى الديمقراطية. كان روبرت دوول يقول: إنه يصعب الحديث عن نجاح عمليات التحول الديمقراطي إلا بعد إجراء ثلاث عمليات انتخابية متتالية بنجاح، وتكون عندها الديمقراطية «اللعبة الوحيدة في المدينة»، كما أن عملية انتقال السلطة التي عادة كما توصف بالسلمية والسلسة والخالية من العنف والكاملة لم تحدث بشكل واضح في الحالات التي جرت فيها الانتخابات في المنطقة العربية. وربما تكون تونس أنجح حالة عربية، رغم أنه يصعب الجزم بنجاح التجربة حتى اللحظة؛ إذ إن الاستقرار المؤسساتي أهم ما يميز عمليات التحول الكاملة. وفي كل الأحوال، فإن الانتقال الكامل لم يحدث في الحالة العربية. بل إن ما جرى إعادة تشكيل المنطقة العربية، وظهرت قوى جديدة عملت على المساس بهيبة الدولة وسعت للسيطرة عليها. ومعظم الدول التي حاول «الربيع العربي» ضرب شواطئها تآكلت وأصابها الوهن وبعضها تم تمزيقه وتفتيت وحدة حاله، وفي بعضها ظهر أكثر من نظام ومؤسسة تتنازع السلطة. فالدولة الآيلة للسقوط والتي تستوجب التدخل الإنساني لحماية المواطنين فيها وفق توجهات الإدارات الأميركية المتعاقبة باتت أفضل توصيف للحالة العربية. لذلك، فواشنطن تغتال خصومها في أراضي الدولة السورية الآيلة للسقوط، وتتقاتل الدول على المنافع داخل سورية، وتبحر الجيوش من أجل حماية المصالح في اليمن. الخلاصة، إن المنطقة العربية باتت أرضاً مفتوحة لمعارك الآخرين.
يرتبط بذلك أن التحولات الديمقراطية كما أخبرتنا خبرات الشعوب لم تخل من تأثيرات خارجية. فعند دراسة التحول نحو الديمقراطية أو كما يعرف بعمليات الدمقرطة، خصوصاً في الموجة الثالثة وفق توصيف هانتغتون، والتي حدثت في أميركا اللاتينية في عقد السبعينيات، خلص باحثو عمليات التحول إلى أن هناك أكثر مما قال عنه سابقوهم من «صفقات» ديمقراطية تعقد بين الأطراف الساعية لإحداث التحول الديمقراطي وبعض أرباب النظم السابقة؛ لضمان انتقال السلطة وفق المعايير الديمقراطية. «الباكتوس» كما يطلق عليها لم تكن كافية؛ إذ يجب النظر إلى التأثيرات الخارجية في عمليات التحول التي تبدأ بالتأثيرات الإيجابية لانتقال الأفكار وتلاقح التوجهات، وحتى التدخل بالقوة، أو عبر استخدام النفوذ والمال للضغط من أجل إحداث التحولات المطلوبة. وفي التجربة الأميركية الجنوبية فإن دور واشنطن كان دائماً الأبرز في إجهاض عمليات التحول الديمقراطي من خلال دعم القوى المناهضة لعمليات التحول من أجل الاحتفاظ بمراكز القوى واستعادة عملية الحكم، وتفكيك تأثيرات التحولات الديمقراطية. عشرات الأمثلة التي يمكن سردها للتدليل على الدور الأميركي الهدام في عمليات الإجهاض المبكر للديمقراطيات الناشئة، خاصة في عقد الثمانينات حين كان الخطاب الأميركي يتملق الديمقراطية ويعمل على قتلها في الجانب الآخر. عموماً، واشنطن لم تتخل يوماً عن ازدواجية الخطاب فيما يتعلق بالقضايا النبيلة التي لا تعني شيئاً خارج حدود الدولة الأميركية.
وفي الحالة العربية يصعب تجنب مثل هذه القراءة، خاصة حين نرى أن أهم نهايات عمليات التحول الديمقراطية التي سعت لها الجماهير الباحثة عن التغيير، كانت نهاية الدولة ووحدة حالها. صحيح أن بعض الدول العربية قد نجت من تلك النهايات السيئة، لكنها عانت وما زالت تعاني من حالة عدم الاستقرار التي نتجت عن التدخلات الخارجية. مرة أخرى، بالتأكيد إن هذه التدخلات لم تكن حكراً على مقاصد واشنطن ومطامعها؛ إذ إن الكثير من القوى الكبرى عالمياً وإقليمياً وعربياً كانت لها أدوار ليست أقل سوءاً من التدخل الأميركي.
النتيجة الحقيقة لما جرى طوال العقد الماضي، أن الديمقراطية غابت عن «الربيع العربي»، وأن هذا الربيع لم يحمل الكثير من البشائر للمواطن العربي. هذا لا علاقة له بنوايا وتطلعات المواطن الذي خرج في شوارع العواصم العربية بحثاً عن الكرامة والحرية، بل في النهايات المأساوية التي خيمت على المنطقة العربية. هذا يجب ألا يعني التنازل عن هذه التطلعات والأحلام بمستقبل أفضل وحياة كريمة، لكنه يعني إعادة التفكير فيما يجب فعله من أجل أن يتم السعي لإنجاز هذه التطلعات. إن عدم التنازل عن الرغبة في استعادة الإرادة عبر استعادة الحق في المشاركة السياسية وتقرير مصير الدولة، يجب أن يكون الدرس الأهم ونحن نقرأ خلاصات العقد المنصرم من الربيع العربي أو الثورات العربية أو سمّها ما شئت.
- عن صحيفة الأيام الفلسطينية