لقد مثلت تجربة الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) احدى اعلى وابشع المراحل التي عرفها مشوار الاسلاموية على مضاربنا المستباحة. هذه الردة الحضارية التي استندت الى اساس مكين من التخلف والاغتراب، عما حصل حولنا من زحزحات وثورات علمية وقيمية هائلة طوال أكثر من اربعة قرون، جعلت منا ملاذاً يليق بمثل هذه المؤمياءات والهلوسات الذهنية والعقائدية. بعد ستة اعوام (2014-2020) لم يتبق من ذلك الفردوس (الخلافة) الذي دغدغ المخيلات المعطوبة واليائسة من رحمة الله، سوى شرذمة من العصابات التي تتمترس بما تبقى لديها من انفاق وكهوف نائية. من الناحية الشكلية وما يظهر على السطح بعد الهزائم العسكرية التي تعرضت لها تلك الجماعات، انها قد خسرت المعركة وهذا ما اعلنت عنه الحكومة العراقية في اعلانها واحتفالاتها بما عرف بـ “يوم النصر”. لكن ما نوع وحجم وطبيعة ذلك الانتصار، وهل امتد الى المستنقعات التي انتجت ذلك الوباء وامدته بكل ما يحتاجه من وسائل وادوات لارتكاب كل تلك الجرائم والاهوال بحق الملايين من سكان العراق والشام وباقي بقاع هذا العالم، أم اقتصر على مجاميع بعوضه الذين رمتهم الاقدار للنهايات المعروفة والتي تناقلتها وسائل الاعلام..؟
المؤشرات والمعطيات جميعها تميل الى ان المستنقعات التي انتجت ذلك الوباء، ما زالت لا بعيدة عن أي تهديد جدي وحسب، بل هي مطمئنة على قدرتها في استرداد ديناميكيتها على المدى المنظور، أو كما يقول المثل الانكليزي “الضربة التي لا تميتنا تزيدنا قوة” ومن دون وجود ارادة وهمة ووعي لتجفيف تلك المستنقعات، تتحول كل بيانات النصر على البعوض الى مجرد دقلة اضافية تضاف الى أضابير خيباتنا على هذا الطريق. داعش واخواتها من شتى العناوين الاسلاموية، لم يظهروا من العدم، فهم نتاج منظومة وشبكات اخطبوطية عقائدية وسياسية واقتصادية واعلامية (رسمية وشعبية) وهذا ما كشفت عن التطورات والاحداث والمعطيات بشكل جلي وواضح. انها بالاساس تتمترس بذلك الكم الهائل من سرديات ومرويات الدمار الشامل، والتي ما زالت تمثل الرأسمال الاساس لغالبية المدارس الدينية ومناهجها، كتل وسكراب قيم ما زالت حتى يومنا هذا تبرر وتحتفي بالارهاب والاجرام، وهذا ما تعرف عليه العالم أجمع من خلال طبيعة ردود افعال تلك المؤسسات وشيوخها المعيب والمخزي تجاه ما اقترفته تلك العصابات الدينية من انتهاكات، تخجل منها سلالات الضواري.
لا أحد يجادل في حقيقة تساقط أعداد غير قليلة من بعوض الدعشنة باحجامه ووظائفه المختلفة، لكن ما جدوى كل ذلك مع بقاء مستنقعاتها وحواضنها القيمية والمادية بعيدة عن اية أضرار أو تهديدات جدية. نعم، سقطت دولة “الخرافة” لكن مؤسسات ومنابر ومؤتمرات وماكينة التخريف والتجهيل وشرذمة عيال الله “باقية وتتمدد” بوجود قوى وعقائد وكتل يقبع في قعر اولوياتها مهمة تجفيف تلك المستنقعات. انها حرب لن تنتهي ببيان حكومي (اعلان النصر على داعش) وهذا ما كشفت عنه التطورات اللاحقة وبواكير المعارك المقبلة والتي لن تكف عن مرافقتنا، ما دامت مستنقعاتهم ومستودعاتهم المادية والقيمية بعيدة عن اهتمامنا (افرادا وجماعات) ولا سيما منا المتنطعون للعمل الفكري والثقافي، ولن نشهد اية زحزحة جدية في هذه المعركة الحاسمة؛ ان ظلت هذه الشريحة على ما هي عليه من جبن وسطحية وتملق وهوان…
جمال جصاني