نتاليا لوغينوفا
ترجمها عن الروسية: سمير رمان
غادر ميخائيل ليرمنتوف الحياة ولمّا يبلغ 27 عاماً، بعمرٍ بالكاد يبدأ عنده كثير من الكتاب طريقهم الإبداعي. في وقتٍ، جعل منشوره الشعري «في وفاة بوشكين» روسيا تقف على قدميها، كان ليرمنتوف قد كتب 300 مقطع شعري، و24 قصيدة، وخمس مسرحيات درامية، وروايتين لم يسعفه الوقت لإنهائهما. يمكننا فقط أن نتخيّل، ما الذي كان ينتظر الأدب الروسي والعالمي لو قيَّض للشاعر الفذّ أن يعيش حياةً مديدة، كتلك التي عاشها عملاق الأدب العالمي ليف تولستوي! وبالمناسبة، أعرب تولستوي عن شديد أسفه قائلاً: «كم هو مؤسفٌ أنه غادر باكراً لهذه الدرجة! يا للقوة التي يمتلكها هذا الإنسان! وكم كان بمقدوره أن يفعل!».
خلال حياته الجامعية، غاص شاعر المستقبل في أعماق الفلسفة الكلاسيكية، وخاصّةً الألمانية. ولكنّه لم يرَ فيها مسألةً تجريدية، بل طريقة تفكير جعلت من وجهات نظره الجمالية برنامجاً فكرياً متكاملاً، لتضع أمامه هدفاً عظيماً «تاج الطموحات، عند الضرورة». هذه هي السمةٌ الوطنية بعمق، التي يتميّز بها الكاتب الروسي.
تكمن عبقرية إنتاج ليرمنتوف في كونها تهدف إلى تطهير الإنسان، الذي شوّهته أيضاً الظروف الاجتماعية من التلوث الأخلاقي. كان تركيز ليرمنتوف منصبّاً على تحليل نسبة الخير والظلامية في الإنسان، درجة القوة النبيلة والضعف، المثالية العليا والابتذال الدائم، الأمر الذي ظهر بجلاءٍ في «الحفلة التنكريّة».
عادةً، يكون محتوى القصائد يرمي إلى نقد الوسط الارستقراطي، إلى جانب شجب «الرجعية» التي يُزعم أنها انتشرت في روسيا بعد سحق حركة «الديسمبريين»(*). وبالفعل، ورغم أنّ ليرمنتوف لا يبدي حماسةً تجاه أخلاقيات الدوائر العلمانية العليا، فإنّ موضوع الدراما الرئيس يبقى مسألة كيفية العيش، سواءً كان العيش بضميرٍ، مبرراً ولادتهم بالفضيلة والعمل، أو
«تكمن عبقرية إنتاج ليرمنتوف في كونها تهدف إلى تطهير الإنسان الذي شوّهته أيضاً الظروف الاجتماعية والتلوث الأخلاقي»بالافتراض أنّ الحياة البشرية هي عبارة عن» لعبةٍ»، حيث لا يفوز فيها سوى «القويّ»، الذي هو في الوقت نفسه «المحتال»، متجاهلاً الشرف، ومظهراً بالتالي المغزى المأساوي لوجود البشر على سطح الأرض، في وقتٍ يكون على خلافٍ مع قوانين الكون، والمبادئ الأخلاقية الممنوحة من الأعلى. وبالانتقال إلى موضوع «اللعبة»، و»الحفلة التنكرية»، يثير ليرمنتوف واحدةً من أكثر المواضيع الاجتماعية – الفلسفية إلحاحاً، ليس فقط في زمنه، ولكن خلال العقود المقبلة، وصولاً إلى زمننا المعاصر. بطل المسرحية «آربينين»، الذي وثق بفلسفة الأنانية يتعرض لانهيار حياتيٍّ، ويموت. تتردد في نهاية المسرحية مقولة: «هذا العقل الفخور قد أُنهك». ويصيب الإنهاك العقل الفخور، ليس في صراعه مع «خداعات» العالم فقط، بل وفي صراعه مع نفسه جاهداً، عبر «فخره»، في إظهار الكذب كحقيقة.
عام 1839، يؤلف ليرمنتوف قصيدةً أُخرى: «المبتدئون»، تتميّز بوصفٍ رائع لطبيعة جبال القوقاز، وبتحولٍ دقيق للحالة النفسية لصبيٍّ في الخامسة عشرة من العمر، كان يحاول مغادرة الدير في محاولةٍ للبحث عن طريقٍ يوصله إلى منزله. في «المبتدئون» هنالك اندفاعٍ حماسيٍّ صوب المثالي والجمال، الذي لم تهينه بعد الدناءة البشرية، مما يجعل الروح متنامية القوّة، ترى فيه «مقدّساً».
يحاول ليرمنتوف، بمنهجيةٍ، وعبر أساليب متنوعةٍ، التغلب على براغماتية وفساد العالم الذي عاصره عبر أنواعٍ غنائية. وكانت قصيدته «موت شاعرٍ»، التي عرّضته للعار، وكانت السبب في نقله إلى منطقة القوقاز، متخمةً بنبرةٍ متفجّرة، وبقوة الإنكار لـ»جلادي» العبقرية البشرية. وفي الوقت نفسه، لم تحتو القصيدة على أدنى تلميحٍ إلى «السخط» من النظام السياسي السائد في البلاد. فهو لا يدعو إلى «الثورة»، كما أكّد الوشاة والمخبرون، إنّما إلى «حكم الله»، من «يحاول ليرمنتوف، بمنهجيةٍ، وعبر أساليب متنوعةٍ، التغلب على براغماتية وفساد العالم الذي عاصره عبر أنواعٍ غنائية»أجل التخلّص من «رعاة الفجور». ويصم الشاعر بالعار: أولئك الذين يفدون إلى روسيا «لتصيّد السعادة وكبار الموظفين»، ومن يحتقر «بلاد اللغة الغريبة وتقاليدها»، ومن يبغض شرف روسيا، وكلّ «الحشد الجشع» الذي يتدافع حول العرش ليحوز بأي ثمنٍ، بما في ذلك الافتراء والتشهير والخيانة، على المكاسب الدنيوية. بالطبع، لم تحظ حماسة الأشعار المفعمة بالوطنية بإعجاب طبقة الأرستقراطيين العليا.
بعد عام، توصّل الشاعر إلى نتيجةٍ مفادها أن لا شيء أبداً يخيف أولئك الذين يعبدون «رنين الذهب». لم يدرك أحدٌ قبل ليرمنتوف العواقب الوخيمة لهكذا واقعٍ على الدولة. فهذا الوضع لا يشلّ إرادة الفرد وحده، بل يؤدي إلى شللٍ في عملية التطور التاريخي برمتها:
بحزنٍ أنظر إلى جيلنا
فمستقبله إمّا فارغٌ وإمّا مظلم.
وفي الوقت نفسه،
أراه يشيخ باكراً بلا حول،
تحت وطأة عبء المعرفة والشكوك…
برز أمام الشاعر سؤالٌ ملحّ بشأن موقفه كفنانٍ ومواطن. وقد تبيّن له أن البحث ليس بالأمر السهل. فلا يمكن أن يكون هناك اتحادٌ مع مجتمعٍ عرضة للشك والإنكار باستمرار، مجتمعٍ أصبح «ألعوبة» لمشاعر لا تتغيّر.
احتلت الطبيعة مكاناً واسعاً في حياة وشعر الشاعر. فهي لم تخفف فقط من معاناة ليرمنتوف، بل كانت تذكره بالخلود، وكانت قادرةً على تعزيز «حلم روحٍ» حلوٍ، تلاشت فيه للحظة تناقضات العالم كلّها. بيد أنّ الطبيعة لم تستطع كلّ شيءٍ للشاعر، فلم تطلْ فترة السلام في روحه. كان الإبداع والنساء كلّ ما تبقى لدى الشاعر، حيث لم يجد فيهما الطمأنينة المطلوبة. وبالطبع، لم يكن لذلك أن يحدث، فقد عدَّ الشاعر الحبّ «اتحاداً» بين قلبين يسعيان إلى الأعلى لتحقيق أهدافٍ روحية ذات أهمية. وفي الوقت نفسه، فإنّ الحياة الواقعية في مجتمعٍ لا «يكرهون» فيه فحسب، بل ويحبون «بالصدفة»، دون أيّ قناعات أخلاقية، مبددين بلا رحمة آمالاً وهمية يعيشون فيها، مما عمّق عدم تصديق الشاعر إمكانية بلوغ السعادة في الحبّ. وتبلغ عدم الثقة مداها في قصيدته «كلّ شيءٍ مملٌّ وحزين»، التي كتبها عام 1840.
ومنذ تلك اللحظة، حدث تغيير حادّ في إبداع ليرمنتوف استمر عاماً ونصف العام. وكان جوهر التغيّر انفصالاً تامّاً عن العالم، والانطواء على الذات بحثاً عن طرقٍ فعالة للخلاص الروحي. بطبيعة الحال، فإنّ روح الشاعر المنهكة تماماً والمفتتة بدرجةٍ ما (والحياة، عندما تنظر حولك نظرةً باردة، تراها عبارة عن نكتةٍ فارغة وغبيّة) تدخل عالم طفولته. فهناك يتفجر «حلمه» الحرّ بالتناغم و»الوئام»، حيث لا زيفَ هناك، وحيث تتجلّى الحياة بكامل بهائها. ويحصل الحلم على «تصريح إقامة»: إنّه الوطن، روسيا. وعلى دروبها، وفي قدرها يجب البحث عن التجدّد. هنا يكتب الشاعر قصيدته الشهيرة «الوطن».
تجلت هذه الفكرة المركزية، كبناءٍ قد شُيِّد «بالمقلوب»، في رواية «بطل من عصرنا»، حيث ظهر «بيتشورين» كطريدٍ من قبل مجتمعٍ يحتقره، لم يجد فيه سوى اللامبالاة والدناءة. كانت روحه، التي عذّبتها التناقضات، تتوق في الوقت نفسه إلى التجديد («ألن يلوح… الشراع المنتظر»). ولكنَّ بيتشورين ليس ليرمنتوف. فبيتشورين، طالب الفلسفة التجريدية وفق النموذج الغربيّ، محرومٌ من الشعور بالوطن، روسيا. البطل، منتزعٌ من «الغصن العزيز الغالي»، غريبةٌ عنه التقاليد المحلية، ولا يعرف ماذا يفعل بنفسه: «لماذا عشتُ؟ لأيّ غرضٍ جئت إلى الدنيا؟ وهل هنالك حقاً هدفٌ مقررٌ لي من الأعلى… ولكنني لم أدرك مهمتي». وبحسب ليرمنتوف، فإنّ البشر لن يدركوا هدف الحياة السامي الحقيقي، وهم فقط يعيشونها. لم تؤثّر قيم الشعب الروسي على البطل بيتشورين، ولم تمتزج بها تصرفاته ومشاعره. وعند العودة من بلاد فارس، وهذا تفصيلٌ مهمّ: في إشارةٍ إلى الغربة! يموت بيتشورين.
في العام الذي أُنجز الشاعر العمل في الرواية، كتب «أغنية المهد القوقازية»، التي كانت بمثابة
«عدَّ الشاعر الحبّ «اتحاداً» بين قلبين يسعيان إلى الأعلى لتحقيق أهدافٍ روحية ذات أهمية»
تعليق مميّز على السؤال الذي يطرحه بيتشورين على نفسه، والذي يمكن سحبه على كلّ شخص يعيش بين الشعب، بغض النظر عن موقعه على السلّم الاجتماعي. إنّهم يعيشون، تماماً كشخصيات رواية «أغنية المهد القوقازية»، ليخدموا موطنهم بطريقة نقيّة صادقة، وإن كانت قاسية. ليس هنالك في الأدب الروسي عملٌ فيه هذا القدر من الاندماج العضوي والمهارة الفنية، جُمعت فيه، بعيداً عن التوجيهات التعليمية، أو المواعظ، أسس الحياة الروسية الرئيسة، ككيانٍ واحد: الوطن، المنزل الحبيب. في هذا، ينبغي للمرء أن يرى أيضاً ذروة ارتقاء ليرمنتوف نفسه روحياً، كشاعر. هذا الارتقاء الروحي تؤكّده أحدث أعمال الشاعر («وحيداً أخرج إلى الطريق»)،»النبيّ» و»الشيطان».
ظهر موضوع الشيطان في أعمال ليرمنتوف عام 1829 في أشعاره «شيطاني»، ثمّ في الطبعة الأولى من قصيدة «الشيطان». كانت هذه الصورة تلاحقه كأنّها قوة حيّة تحدّد حالته العقلية وتحدد سلوكه. وفي أعماله المبكرة حول هذا الموضوع، كانت بمثابة «مانيفيست» الشرّ. غير أنّ ظهور الشيطان الذي لا يعرف المعاناة والتوبة، أصبح يقلّ على صفحات مؤلفات الشاعر في شبابه. وفي الوقت نفسه تقريباً، يولد شيطانٌ حزين، تواق. وهذا الشيطان بالتحديد، هو من سيمتلك السلطة على روح الشاعر الغنائية، ليس بقوة التدمير، بل بقوة التململ، بقوة السعي نحو «صورة الكمال».
لم تكن الشيطنة عند ليرمنتوف فلسفة الشرّ، ولم يكن الشيطان رمزاً لها. فهو ينوء تحت وطأة مهمته، «وقد أصابه الشرّ بالملل»، ولذا يبحث الشاعر عن التناغم، وعن الحبّ حتى مع «سماء التصالح»:
أريد أن أُحبّ
أريد أن أصلّي…
غير أنّ روحه التي قتلها سمّ عدم الإيمان والإنكار لا تستطيع أن تولد من جديد. وبتصويره الشيطان شاعرياً، وجعله من الممكن الشعور بقوىً مضيئة روحية عالية، لا يطرح ليرمنتوف مسألة التبرير الكاملة لشياطينه. علاوةً على ذلك، فإنّ مأساة بيتشورين، الشيطان، وأربينين، تتلخص في أنّهم يرزحون تحت وطأة طاقاتهم المدمّرة. يعكس هذا التناقض أزمة الشيطنة، وهي ظاهرة اضطرارية مفروضةٌ على الأبطال بحكم ظروف وجودهم الموضوعية. فكلّ واحدٍ منهم يخفي في ذاته قوىً هائلة من أجل الخير والإبداع، ولكنهم كانوا محكومين بارتكاب الشرور. ولم يبلغ أبطال ليرمنتوف الشيطانيين مرحلة الرضا، ولا السعادة، وحتى أنّهم لم يحظوا بالهدوء البسيط المتاح للأشخاص من أصحاب الضمير النقيّ، ولم يتمكنوا من الإفلات من شعورهم بالوحدة. هذا المنطق، الذي فهمه ليرمنتوف: «الشرّ يولِّد الشرّ».
في شاعرية أعمال ليرمنتوف الأخيرة، يصبح الحبّ مؤشراً وشرطاً لبلوغ الانسجام الحقيقي بين العالم والإنسان. بيد أنّ هذا ليس شعوراً حميمياً بقدر ما هو الحبّ للخير، والحقيقة، والله. وبالتحديد، وبشكلٍ نهائيٍّ، يصل ليرمنتوف إلى هذا الحبّ في قصيدته «وحيداً، أخرج إلى الطريق…»، التي كتبها قبل أسبوعين فقط من مصرعه في المبارزة.
(*) حركة الديسمبريين: حركة ثورية تحريرية قام بها الأعيان، وتوجت بانتفاضة 14 كانون الأول/ ديسمبر عام 1825 التي قمعتها القيصرية بقسوة.
*ضفة ثالثة