عبد علي حسن
بعد صدور ديوانه التجريبي الأول (مملكة العظام ) عن دار الصواف عام 2016 يصدر الشاعر أحمد ضياء عمله الشعري الثاني ( الحرب دموعها خشنة) عن دار الانتشار العربي /بيروت / طبعة اولى/2017. وهو حصيلة تجربة نمت في رحم معطيات الواقع العراقي وتفاعلت مع اكراهات الحرب التي عدت تهديداً مباشراً وقاهراً للوجود الانساني في كل امتدادات الأثر الإرجاعي للفرد والمجتمع على حد سواء . وعلى الرغم من ان نصوص المجموعة كان قد رافقها نشاط أدائي في أمكنة مقترحة عدت حاضنة مكانية حفزت الشاعر وزملاءه الآخرين المنضوين في مشروعهم الشعري المميز(ميليشيا الثقافة ) الا انه من الممكن التفاعل مع هذه النصوص سيما وانها — خاصة في تلك الاداءات التي شهدتها الأمكنة — قد تضمنت اشارات مرجعية تحيل الى الفضاء المكاني فاسحة المجال لإحالات دلالية تمنح تلك النصوص فنيتها الزمكانية مجتمعة .
ولأن نصوص المجموعة تنتمي في بنائها الاجناسي الى قصيدة النثر فإننا في قراءتنا سنلجأ الى تقصي قدرة هذه النصوص على الحركة ضمن الفضاء الاجناسي لقصيدة النثر اولا ولنبين مدى امكانيتها الفنية لتثبيت المعاني على وفق الآليات الشعرية المتوسلة بها لتقديم نصوص احتفظت باستقلالها الأدائي والمتجاوز لما يطرح من تجارب شاءت ان تبقى في سياقها الاسلوبي واللغوي المعروف عنها دون تقديم كشوفات شعرية جديدة هي ايضا بحاجة الى اساليب ولغة جديدة متجاوزة لمرجعيتها الذاتية والموضوعية ، أشير الى ذلك ليقينيتي بأن ديوان الشاعر احمد ضياء الجديد وكذلك الدواوين الأخرى التي أصدرها بعض من شعراء ( ميليشيا الثقافة ) تعد الدماء الجديدة في جسم الشعر العراقي وستمده بالعديد من عوامل الديمومة والتأثير في مجمل المشهد الثقافي العراقي . على ان ذلك لايعني اقصاء وعدم فاعلية بعض التجارب من أجيال سابقة في التماهي مع معطيات الواقع العراقي ولكنها — التجارب — ظلت متلبسة ثوبها ولغتها القديمة المعروفة عنها مندون تجديد او ابتكار . وبذا تنهض تجربة ميليشيا الثقافة بعدها استجابة جيل جديد نما وترعرع في رحم البؤس العراقي منذ 2005 ولحد الآن ..ولأنها كذلك فقد استحقت ان تكون الدماء الجديدة وبأنها منجزات جيل جديد استجاب للتحولات الجديدة . بأداءات اسلوبية ولغوية جديدة تتناسب وتلك التحولات .
وسنستعير التعريف الذي توصلت اليه سوزان برنار من خلال بحثها القيم المعروف (قصيدة النثر من بودلير الى ايامنا ) يخص قصيدة النثر بعدها( قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية ، موحدة مضغوطة كقطعة من بلور ، خلق حر ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كل تحديد وشيء مضطرب ايحاءاته لانهائية ) وسنستضيء بهذا التعريف او التصور الذي لازم كل الجهود التي بذلت لإضفاء موجهات جديدة سواء على صعيد قصيدة النثر الفرنسية او الأميريكية وجميعها تصب في الحفاظ على جوهر المكونات الإجناسية لقصيدة النثر .
لذا فإن نصوص المجموعة مدار البحث تتحرك في فضاء التعريف الآنف الذكر اذ كتبت نثراً بهاجس شعري اعتمد بنية المجاز –العقلي منه تحديداً — للتخلص من براجماتية اللغة واستهلاكية معانيها السطحية وترحيلها الى فعل بلاغي يحافظ على الايقاع الداخلي للنص من جهة وتخليق معان جديدة تسمح بتأويلها والوصول الى المغزى الذي تختص به كل قراءة منفردة . وتبدت حركية المجاز منذ العتبة الأولى للمجموعة وهو عنوانها المثبت على الغلاف ، وهو(الحرب دموعها خشنة) فهذه الجملة الخبرية تضمر فعلا اسند لغير القائم به أصلا ، فالبكاء فعل انساني وقد اسنده الشاعر للحرب ليبراها من كل مايلحق بالانسان من جرائها . وليكون مدلولا هذا الفعل— مأساة الحرب — هو فعل مضمر قام به آخر وهو الإنسان بصرف النظر عن شرعيته وقصديته ، ولعل هذا المجاز العقلي قد خلق بنية الأنسنة لتقريب المعنى ومنح المتلقي فرصة التماهي مع مولدات هذا المجاز من فضاءات دلالية وصور تبتعد عن الادراك المباشر بقدر ماتقترب من وضع لغوي او فعلي يعيشه المتلقي وتعرف عليه الا انه يشهد تدويرا لمفردات المجاز المرجعية لإعادة صياغتها بما يحقق وضعاً غير مألوفٍ يكتسب جمالية تسم النص النثري بحرية متسعة باتجاه تخليق معان جديدة لم يألفها المتلقي قبلا واذ تشكل مفردة الحرب مرجعاً عاشه المتلقي بكل دلالاتها فإنه قد تم تدويرها/ إعادة انتاجها لتكتسب صفة انسانية تهرق دموعاً خشنة /كبيرة الحجم لتكون دالا لحجم الانتهاكات التي تقترف بحق الإنسان مع الإشارة — دلالياً مضمراً — بأن الحرب ذاتها كفعل خارج عن سياقها كذات محزونة.وتستمر حركية المجاز في نشر هيمنتها على موجهات نصوص المجموعة لتغدو آلية بلاغية ليس على مستوى تخليق الصورة المستقلة فقط وانما لتشكل بنية كلية لتجاوز الاستعمال البرجماتي للغة الى بث خطاب جمالي مضمرا تحت سطح المعطى المرجعي ليتم تدوير هذه المعطيات والمفردات التي يضج بها اليوم العراقي — المفخخات/القبور/ العبوات/الكاتم/ الأمهات / الآباء/الأبناء/ الشهداء — وسواها من المفردات المكونة للواقع والراكزة في الذاكرة الجمعية ، فنقرأ في نص (براءة الكفن ) :–
( جندي يقع بأنامله في الحرب
يتجنب القتال المفزع
لكي لا يموت
كعلبةبلاستيكية تدحرجها الريح………. النص ص 20)
فالنص يثبت معنى يراد منه الكشف عن موقف الجنود من الحرب بعدها فعلا إقصائيا للوجود البشري . لايرغب الجنود في ممارسته لأنه في الآخر سيتركهم مهملين تلعب في أجسادهم الريح كعلب بلاستيكية من دون روح . أو كما في المقطع التالي من نص ( محاولات لطحن فوهات صدري) :–
( أيها الموت
لاباب يخنق ضفيرة الصواريخ اذ ترعد الظم دموعي خيطاً
يتدلى من خاصرة العصف
يا أيتها النسوة
كن عواقرا كيما ترضع القنابل شفاههم …… النص ص 84)
فالنصوص هذه وسواها تعترض على الحرب وتكشف عن كونها وريثة ذلك الوجع العراقي الذي كرسته سنوات الحروب السابقة واللاحقة .
وفي الوقت الذي شكلت فيه حركية المجاز أثراً فاعلا في التشكل الجديد للغة واكتسابها شعرية تستبطن الظواهر الملموسةفي الواقع اليومي فإن النصوص في بعض صورها الشعرية قد اتخذت وضعاً فوق واقعي/ سريالي يتناسب وحجم مفردات الخراب اليومي الذي يعيشه الفرد العراقي .
لقد توزعت نصوص المجموعة بنائياً على نمط كتابة قصيدة النثر العالمية ، الفرنسي ذو البناء الذي يعتمد الاسطر والأميريكي الذي يعتمد الفقرة .وفي كلا النمطين فإن النصوص قد حافظت على وحدتها الموضوعية والعضوية وتماسكها الدلالي وداخلياً فقد تمكنت من تخليق الإيقاع الداخلي بفعل مهيمنة المجاز البلاغي .
لقد تمكنت مجموعة (الحرب دموعها خشنة ) للشاعر أحمد ضياء من طرح تجربة نصوصها المتماهية مع مخرجات ومعطيات الواقع العراقي وتأثيث خطابها المعرفي والجمالي على وفق إعادة تدوير ظواهر الواقع بإتجاه انتاج واقع آخر يكشف عن جماليات القبح في عوامل انتهاك الشخصية العراقية .