المثقف «الهووي» والتباس الاسئلة

هل المثقف(الهووي) كائن نرجسي، بالمعنى الفلسفي، أم هو قناع لمثقف يعاني من أعراض وعصابات عميقة، تنعكس على سلوكه ولغتها؟
هذا السؤال يعكس عقدة هذا المثقف في التعبير عن وجوده، أو عن ذاته، أو عن طبيعة علاقته النقدية أو الواقعية مع الآخرين، مثلما هو سؤال يلامس توصيف علاقة هذا المثقف الملتبسة بالطبيعة(الجماعوية) للثقافة العربية المهيمنة، وبظاهر أثرها ونصوصها، وبنظرتها المريبة لظاهرة المثقف الهووي، أو المرآوي كما يسميه فتحي المسكيني، وهي تسميات غير آمنة لهذا المثقف الذي يحاول أنْ يضع العالم في معطفه.
اشكالية توصيف هذا المثقف تكمن في طبيعته، وفي تعاليه وانغلاقه، وفي نزعته لتنصيب أفكارٍ ومواقف من الصعب التعاطي معها، وهو ما يجعل علاقته بالجماعة محفوفة بعدم الثقة، أو بعلاقته مع الصورة الراسخة للمثقف الفاعل أو النقدي أو العضوي، وحتى للمثقف الوجودي، فهو لا يعني- في هذا السياق- تمثيلا لمثقف العبث، أو المثقف اللامنتمي، لذلك تظل فكرة « الهو» دالة على الأزمة، أو المرض، أو عقدة « اللاجماعة» فضلا عن أن هذا المثقف هو نتاج لصراعٍ ما، بما فيه الصراع النفسي أو السياسي أو الايديولوجي، وأن ذاته المضطربة تكشف عن نوع من الكراهية، والرفض.
صورة هذا المثقف كانت أنموذجا لبعض مثقفي الستينات، ليس بوصفه المثقف المتمرد على الهزيمة السياسية أو الوجودية، بل بوصفه المثقف التبريري لتلك الهزيمة، او الذي وجد في اقنعة شخصيات بيكيت وجان جينيه، أو عند كامو، أو في غثيان سارتر بعض استعارته، مع نوع من المغالاة، وبقصد الهروب من المواجهة، والتلذذ بالعزلة عن الواقع.
ورطة هذا المثقف هو احساسه بوهم الهزيمة والانتصار معا، فهو يعاني من اعراض الانكسار الوجودي، واعراض وهم الانتصار على الاخرين، وأنه يلجأ الى قاموس لغوي وتصويري افتراضي وغير واقعي، وأنّ جوهر خطابه يتموضع عبر ما يغرس في نفسه المضطربة حساسية « الأنوية» بدلالته الشعورية، الايهامية، وليست الحقوقية أو الثقافية، وهي مسألة اشكالية في مجتمعاتنا المحكومة بفرضيات الطاعة والسلطة والمقدّس والايديولوجيا والجماعة والأمة والملّة، وهي اسماء من الصعب تغييبها في الواقع، أو قتلها في اللاوعي الجمعي.
لذا يظهر لنا هذا المثقف(الهووي) بصورة المغامر، والمتمرد على اكراهات الاجتماع الثقافي، ويجد في ما يكتبه خطابا أو اشهارا تعبيريا عن ذاته، وعن حلمه الفائق بالمغامرة، وعن رغبته في تحويل تلك المغامرة الى رهان ثقافي، والى قوة، وربما الى الوقوع في ايهام مواجهة السلطة، أو التابو، والتي كثيرا ماتدفعه للجنون، أو الهروب الى امكنة عمومية أخرى، قد لاتطيقه أيضا، لأنه رغم مايسكنه من هاجس فاضح للمغامرة، فهو يظلُّ يفكّر بطريقة غرائبية، وبلا وعيٍ نكوصي، مضطرب، يعيش التباسات علاقته العصابية مع الجماعة، ومع اكراهاتها النفسية والرمزية..
وظيفة المثقف الهووي.
هذا التوصيف يحتاج الى تعيين، فأيّ وظيفة يصلح لها هذا المثقف؟ وفي أي نسق سيكون فاعلا، ومتسقا، فهو مثقف بلا اسئلة، وأن وظيفة صانع الاجوبة ستكون مستحيلة، لأن هناك من يشاركه فيها، بدءا من رجل السلطة الى رجل القانون الى رجل المرور، وانتهاء برجل الأمن الذي سيدفعه النهاية، وتحت يافطة الشبهات التي يملكها..
في مجتمعنا الثقافي تبدو صورة هذا المثقف مضببة وشائهة، ولا تاريخ لها سوى في المقاهي، أو في الحانات، أو في الكتابات الملعونة، وهذا تاريخ مشوك به، لاسيما وسط هيمنة الايديولوجيا، والطبيعة الواقعية للوظيفة، والتي لا تقبل به موظفا يخلّ بقواعد الالتزام، وبالضبط الاداري، وبالسلوك، وحتى بالذوق العام، وبالزي الرسمي احيانا..
تاريخ هذا المثقف هو تاريخ موته السريع، وعدم نضج ظاهرته في عالم ثقافي مسكون بسلطة الجماعة والمقدس، مثلما هو تاريخ هيمنة النموذج الفائق للقراءات التي غرستها الوجودية والتيارات العبثية بين مثقفينا، لاسيما الذين خرجوا مهزومين ومطرودين من احزابهم واحلامهم اليسارية، ومن معاركهم القومية الفاشلة، فضلا عن علاقة هذا المثقف الأضحوية بالسلطة، أو بالمقدس، وكلاهما كانا مصدرا لإنتاج الرعب والخوف والقمع، وهو ما اسهم في صياغة علاقة ملتبسة ومريبة مع الاجتماع العمومي، الاجتماع المسكون بالخرافة والاوهام والعزل..

علي حسن الفواز

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة