البعض قد يستغرب من هذا العنوان الذي يسلط الضوء على واقع عراق ما بعد التغيير، والجولات الانتخابية التي شاركت فيها أعداداً هائلة من “الأحزاب” والتنظيمات السياسية، لم تشهد مثلها التجارب التي سبقتنا على طريق التحول من الدكتاتورية الى الديمقراطية (أكثر من 200 حزب وكيان وفقاً لتقارير المفوضية المستقلة للانتخابات). قبل أكثر من 8 عقود، وفي الثلاثينيات من القرن المنصرم رفع الرعيل الأول من الوطنيين العراقيين وممثلهم الأبرز آنذاك الزعيم جعفر أبو التمن شعار (لا ديمقراطية بلا أحزاب) معبرين بذلك عن وعي عميق بمتطلبات إعادة بناء المجتمع ومؤسسات الدولة على أساس وطيد من التشريعات والمعايير الحداثوية المجربة. أما اليوم وبعد التقهقر السريع والشامل لمنظومة القيم والوعي والسلوك والتقاليد، فلم تعد هناك معايير وتشريعات ومؤسسات رصينة وقوى وزعامات تحرص على إعادة بناء كل هذا الحطام البشري والقيمي الذي خلفته العقود الخمسة الأخيرة من تاريخ العراق الحديث. لا أحد يرغب بمواجهة هذه الحقيقة المرة؛ وهي عدم وجود أي حزب سياسي من طفح “أحزاب” ما قبل التغيير وبعده، تنطبق عليه المعايير المعتمدة سياسياً واجتماعياً ووطنياً وأممياً. غالبيتها وبنحو خاص المتنفذة منها، هي عبارة عن إقطاعيات خاصة لعائلات وأسر دينية أو قبلية، يتم توارث الزعامة والأتباع فيها جيلاً بعد جيل، أما الأحزاب ذات الصبغة الإسلاموية فهي بطبيعتها الطائفية الصرفة تتنافر والأسس المعتمدة لتأسيس الأحزاب على أساس الهوية الوطنية والإنسانية، وقد برهنت التجربة لا في العراق وحسب على الآثار المدمرة لوجود مثل هذه الأحزاب والجماعات. كما أن الأحزاب القومية ذات المنحى الشوفيني والأهداف العابرة للحدود الوطنية (من جميع القوميات والإثنيات) قد ألحقت أضراراً فادحة لا بالوحدة والسلامة الوطنية وحسب، بل بشعوبها وقومياتها أيضاً، والمتابع الموضوعي بوسعه التعرف على أمثلة كثيرة في هذا المجال.
لفك طلاسم مثل هذا المشهد الغرائبي، وبنحو خاص موضوع عجز العراقيين عن صناعة وامتلاك أحزاب وتنظيمات سياسية واجتماعية ومهنية رصينة، تنهض بمسؤوليات إعادة بناء العراق الجديد على أسس وطيدة من الحريات والتشريعات والقرارات المسؤولة والشجاعة؛ فإننا نحتاج لفهم ووعي المناخات والشروط الفعلية التي نعيش وسطها، ودورها في إجهاض ولادة مثل تلك الانبثاقات. طبعاً أيتام النظام المباد لا يطيقون مثل هذا المنحى في التعاطي مع البنية الفعلية لمحنتنا وما يعج بها من انسداد للآفاق، لأن أس البلاء في ذلك يعود لما جنته سياسات تلك الحقبة المشؤومة من تاريخنا الحديث، حيث تم فيها تصفية واستئصال كل ما له علاقة بالتعددية السياسية والاجتماعية والثقافية، ومن ثم هيمنة طاعون عسكرة الدولة والمجتمع، التي ما زالت آثارها المدمرة فاعلة وفتاكة حتى يومنا هذا. مع مثل هذه الشروط والمناخات التي تتغول فيها دوائر وإدارات الدولة وثكناتها (أكبر رب للعمل غير المنتج) لا يمكن انتظار ولادة أحزاب إلا بالشكل الذي باركته مفوضيتنا المستقلة للانتخابات وتشريعاتنا التي رسمت الطريق لتأسيس كل هذا الخراب من الأحزاب والكيانات السياسية وما يتجحفل معها من قوانين للانتخابات تتناسب وهذه النسخة المشوهة من “الديمقراطية”. ما يفترض أنه مرحلة للإعمار وإعادة البناء؛ أي مغادرة طاعون عسكرة الدولة والمجتمع، تحتاج الى جيل جديد من الأحزاب السياسية تضع الهوية الوطنية وخدمة الشأن العام على رأس أولوياتها، وهذا ما لم يحصل حتى هذه اللحظة..!
جمال جصاني
ديمقراطية بلا أحزاب
التعليقات مغلقة