كمال عبد الرحمن
قصة ( أبونا ) لنزار عبد الستار القاص الرائي والروائي المتميز ، هي نوع نادر من النص السير ذاتي ، فهو يتأسس من جدلية ( الأنا ) و( الأنا الآخر)، فالانا الساردة هي الشخصية الرئيسة الى جانب شخصية ( الأم) والشخصية في السرد تعد من اكثر العناصر فاعلية في بناء القصة، كونها العنصر الوحيد الذي تتقاطع عنده العناصر الشكلية، تمثل ( الأم) الشخصية المحورية في السرد، وعلى الطرف الآخر من القصة يقف الأبناء مجرد شخصيات تتحرك وفق نظرية الوعاء الكبير الحاوي لكل مايدور في البيت:
(( أقفلت أمنا الباب لأننا لانعرف كيف نعود اذا خرجنا))
هذه الفاتحة النصية التي تتكرر كثيرا في القصة، تؤدلج تأريخ عائلة قائمة على نسق اخلاقي خاص، فالأبناء لاوجود لهم الا بوجود الأم بعد أن غاب الأب في دهاليز النسيان، تغالب الأم زمناً أشقى من الموت، وهي تحمل على كاهلها جبلاً من الأسئلة التي شاهت هويتها، الأم التي ضاع شريكها في مأساة لا يصدقها أحد، تتوحد مع صبرها، وتتحد مع عزيمتها، فثمة بيت بحاجة الى روح وحياة:
((قبل أن تحمل أمنا مفتاح باب بيتنا الى الأبد، كانت أمنا تحب النهار والليل، وبابنا يطرق يوميا، وكنا نشعر بها ترتج بلحمها الفائض مع صوت الباب، وترتبك خصوبة ألوان ثيابها، ولكنها سرعان ما تهدأ، وينطفئ فيها اللون الأحمر والأبيض ليعود طيفها الشمسي الجميل الى صفرته الساخنة، قبل أن تحبل أمنا بقلقها وتتوقف عن تربيتنا بسيرة أبينا))
من هنا تبدأ شخصية( الأم) بالتمظهر تدريجيا من دون ان يلتفت اليها أحد، وتتأصل المبادئ فيها ، في زمن تغيرت فيه الحياة نحو الأسوأ والأصعب، فهي تشقى بين نارين ، نار الزوج الذي انفلت من دائرة التعقل وتاه في مدارات الفسق والمجون والجنون ، ونار ما تبقى من العائلة التي تاهت عندما ضاع الأب ، من هنا نذرت الأم نفسها كي لا يضيع ما تبقى ، فأعلنت سياستها الحازمة تجاه الأبناء، يشاركها في تطبيق هذه السياسة الحاوية المتشددة (مفتاح)، ومن خلال قناع أو رمز (المفتاح)، تتجلى البطريركية المعاكسة ، في اشتغال ( الأنا العليا)، ليس بصفتها ( الأنا الآخر)، بل بوصفها الحارس الأمين على مملكة العائلة، وبخاصة بعد ضياع الأب وهو يطارد آثامه على امتداد جنونه الأثير، صارت الأم بوابة الترصد والخوف من الخوف ونافذة القلق الغامض، أغلقت على أبنائها بمساعدة (المفتاح: الرمز) سبل التهالك التي قد تودي بحياة عائلة كاملة، اذا خرجت ولم تعد تعرف كيف تعود:
(( أقفلت أمنا الباب لأننا لانفهم شيئا، ولا نعرف كيف نعيش، علمتنا أن نطيعها، وأن نقدس قراراتها التي لانشك أبدا في صوابها، صرنا ننام كثيرا، ولكنها كانت تعرف متى يجب أن نشتغل، نسقي شجرة الزيتون، وهي تبحث عن ظل، ننظف السجاد، وهي تلفه، نعصر غسيلها، وهي تنشره، نشعر بالفخر، ونحن نقف معها في المطبخ، تملك الدنيا، عندما نساعدها في التفريق بين الكاري، والفلفل الأسود، كنا نشعرها بالأمان..))
هذا اذا أضفنا عقدة جديدة للسيرة، عندما تكون ( الأنا) ليست الشخصية المركزية في السيرة وانما هي شاهد أو مشارك ثانوي أو هامشي يتحدث عن (الآخر)الشخصية الرئيسة أو المركزية في السيرة. حيث يتطوع فيها راوٍ سيري غيري لرواية حياة إبداعية في مجال حيوي ومعرفي معين .
قصة (أبونا) للنّاص المبدع نزار عبد الستار، تعمل وفق نظام ( السيرة الغيرية) ،وفي هذه القصة يعمل المبدع نزار عبد الستار على ( السيرة الغيرية) أكثر مما يعمل على النص (السير ذاتي)، فالقصة تتحدث عن ( أب غامض ذي سيرة ذاتية متباينة في صورتها)، فلا نعرف عنه شيئا، بقدر معرفتنا عن ( الأم) التي هي كل شيء في القصة، وأما السارد العليم بأوجاع العائلة فليس أكثر من راوٍ محايد لا تأثير له في النص سوى كونه أحد أفراد العائلة، تشكل ( الأم) خط السرد الرئيس في القصة، ومن خلال عدسة أو كاميرا السارد، تكتمل لدينا صورة واضحة لمسيرة العائلة التي تقودها، وهي تشكل نوعا من القهر الودي أو الصرامة المحببة في تحريك شخصيات الأبناء ومتابعة الزوج الضائع، ولاتصدق انهياره وموته أخيرا، مما يربك حياتها، ويضعها في فوهة المدفع، وحدها تقود سفينة العائلة، وتغرق هي ، ولاتسمح لعائلتها بالغرق:
(( بعد أن أقفلت أمنا الباب صرنا أكثر خوفا على شجاعتها من الشتاء والصيف، وأقل اهتماما بالأرقام، كنا نتسلى بلدغ معارفها الآمنة في رأسها حتى نسرقها من حزنها الروتيني، ولكننا مع الأيام أصبحنا أكثر جدية ونحن نسألها، في أوهامنا العابرة، عن حاصل ضرب سبعة تسعة، وكان عددنا أقل مما أنجبت بكثير، لذلك كنا نستخدم في القسمة والضرب المبادىء الفطرية في المحاسبة، هذه لك ، وهذه لي، وأُمّنا المسكينة تشبك أصابعها غازلة صمتها الكئيب، كاتمة سرها الأسود..))
تشتغل سيرة ( الأنا الآخر) في هذه القصة على قطبين رئيسين في الحدث السردي العام، الأول: الأم، والثاني: الأب: والأب ههنا لانعرف سبب الانتقالة النوعية في سلوكه من ( ملك زمانه) الى( مشرد ماجن يتعرى في الشوارع ويتمنى الزواج من حسنة ملص)، كان خروجه من سجل العائلة وتأريخها محاطا بالشبهات، ولولا تضحية الأم، تلك التضحية التي أودت بصحتها وكادت أن تودي بعقلها وحياتها، لضاعت العائلة، تلك التي لا تعرف العودة اذا خرجت من البيت، لكن موجات التفاؤل توقظ في أنفسهم عودة الأب بشكل ما بطريقة، ولو على شكل ابتسامة أو بضعة حروف:
(( جمعتنا وجعلتنا نجلس أمام الصورة. في البداية قالت انه يتحرك. كانت تؤمنا ونحن خلفها ننظر الى أبينا. وبعد ان عاد الشتاء مرة اخرى، قالت انه يبتسم..
رجعنا نرصد الحركة الصامتة بدقة والتي اخذت بالاتساع، والصعود، والهبوط، ونحن نحاول متابعتها بشفاهنا. وفي السنة العاشرة من جلوسنا أمامه بخشوع، ورهبة، واحترام، ومحبة، استطعنا أن نقرأ الحرف الأول، وعرفنا أن أبانا ، لابدأ يتكلم)).
وختاما فإن قصة (أبونا) لنزار عبد الستار هي كنز سردي ثمين ، وهو ليس قاصا اعتياديا، فلديه القدرة على الغور في أعماق الأشياء والخروج منها بالمدهش من الدرر السردية، والقصة تحمل رسالة انسانية بحاجة الى من يفك شيفرات رمزها ، قدمها القاص من خلال شخصياته الفذة. فنجح في ابداع نص سردي مائز وراءٍ اشتغل اولا على ذكاء الناص وثقافته الواسعة وادراكه لعبة السرد والسيطرة على مفاتيح العمل القصصي ،وامتلاك وعي عال بتقانات النص السردي، مما أهلها ان تكون على المحك في امتحان التفرد والتميز القصصي من خلال هذا الفن الصعب والنادر ايضا: ومن ثم السيطرة على معطيات السرد و القدرة على ادهاش المتلقي وتأهيل نصه القصصي الى ممكنات ذات جماليات سردية عالية ومتطورة.