المُتَرجِم وأدواتُه

دلال نصر الله*

إن منظومة المعارف، منظومة مترابطة ومتكاملة، وكل زمان هو زمان للترجمة، وإذا تسيّدت الترجمة المشهد الثقافي يوما، فهذا لا ينفي حقيقة أن بريقها قد يبهت في أحايين أخرى، غير أنّه لن يتلاشى بتاتا. لكنّي أخشى ما أخشى عليها من مستقبل تهدف فيه البلدان عبر خططها الاستراتيجية، والرؤى إلى التحوّل إلى مراكز تجارية، واقتصادية. وهذا سيؤدي بشكل أو لآخر إلى تهميش التّرجمة. من الضروري رسم خارطة طريق واضحة المعالم للترجمة ومترجميها، لكيلا تختل المنظومة. الترجمة تسير جنبا إلى جنب مع التّطور الاقتصادي، وهي رافد من روافد الثّقافة التي تغذي أذهان الشعوب. هنا نتساءل ما الذي يقرأه الجيل الحالي، وما تأثيره على أجيال المستقبل، وهذا سيقودنا حتما إلى أهمية تحديث المترجم لأدواته، بما يتواءم مع طفرات التّطور على جميع الأصعدة.
مع دخولي مجال التّرجمة عن اللغة الإيطالية، لاحظتُ تلك الخصوصيّة الموروثة التي تميّز الشّعب الإيطالي. الأدب الإيطالي يطوّع الأشكال السّرديّة بإبداع. أُدباؤه يبحثون عن التّجديد في المواضيع المطروحة، ويطرقون كلّ الأبواب للعثور على موضوع جديد، بأسلوب طريح جديد. ففي الشّعر مثلا – وأتحدث هنا عن تجربتي الشّخصية في ترجمة قصائد للشاعر الإيطالي الكبير أومبيرتو سابا – نجد أنّ البُنية التّركيبية والنّحوية في البيت الواحد لا تخضع لقواعد، وهو أمر يفرض على المترجم عن اللغة الإيطاليّة إيجاد مقابلات مماثلة في اللغة العربيّة، واستيعاب أنواع تكسير في الإيطاليّة، ومن ثمّ البحث عن صيغ نحوية وتركيبية جديدة تكسر المعيار حتى في اللغة العربية، فتكون التّرجمة هنا إبداعية، وخلاف ذلك يُعتبر ترجمة حرفيّة. لكنّ خصائص اللغة الإيطاليّة – وهي قضية شائعة في التّرجمة بشكل عام – قد تمنع المترجم من النّقل الحرفي لبعض الصّور، والاستعارات التي تجود بها قرائح الشْعراء بسبب معوّقات ثقافيّة، أو لأسباب ترتبط بالأعراف اللغويّة، والعادات، أو الجنوسة. وهنا يضطر المترجم للبحث عن صور بديلة مقبولة في اللغة العربيّة. تطوير المُترجم لأدواته هنا، يعني كسره لقالب الجمود والأمان الذي أحاط نفسه به، فيُجبر نفسه على اكتساب المؤهل الشّعري للمساهمة في نقل وشرح المعنى بلا خروج كبير عن هدف الكاتب. والتّطوير هنا، يقتضي امتلاط سُلطة تقديريّة تمكّن المُتَرجِم من انتقاء أنسب الاختيارات. لا يختلف إثنان في أنّ ترجمة الشّعر هي أصعب أنواع التّرجمة الأدبية، وفيها وصف حقيقي لا أحبّذه ألا وهو «خيانة النّص»، لكنّها في نهاية المطاف ترجمة نافعة ونزيهة. لا ضير في أنْ يتحدّى المُترجم نفسه، وينصهِر في التّجربة الشّعرية. أُترجم ما أشاء في اللغة الإيطاليّة، لكنّي أحاذر من نشره ألف مرّة، فالإيطاليّة بالنّسبة لي تُقّق امتدادها في العربيّة، والعربيّة تَغتني بأفكار، وإمكانيات، وتصويرات، وتاريخ، وبعد اجتماعي، ونفسي إيطالي.
أمّا بالنّسبة للتّرجمة الآلية الحديثة، فهي بلا شك تهدد مهنة المُترجم بشكل عام، والمتخصّص بالتّرجمة العلميّة على وجه الخصوص، لكن لا بديل عن المترجم البشري – على الأقل حتى السّنوات الخمس القادمة – انطلاقا من عوامل غرابة التّركيب اللغوي، وصعوبة ترجمة الصّور، وتعدّد اللهجات بين الأقاليم، وتعذّر نقل الإيقاع والأوزان الموسيقية.
إسهابي في مسألة تطوير المُترجم لأدواته، والتي تختلف من مترجم لآخر، تماما كما تختلف الأدوات التي يستخدمها كل رسّام، منبعه أنّ مسؤولية الاستثمار النّاجح للفكر الغربي، وتوجيه الفكر العربي نحو علوم ومعارف غير مُستهلكة، تقع عاتق المُترجم الذي ينأى بنفسه عن التّرجمة المُشوّهة.

  • مترجمة كويتية

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة