هروبنا

الهروب من نفق مضيء

تمكن الكاتب جاسم المطير في كتابه الهروب من جسر الحلة، أن يقدم للقراء حدثاً إنسانياً رائعاً بروح نضالية شبابية عالية الهمة ومسؤولة في آن واحد , حدث بدأ في منتصف عام 1967 وانتهى مع نهايات العام تقريباً.
كتاب المطير هذا ضم مذكراته عن ذلك الحدث البعيد وما رافقته من أحداث.
وفي هذا الكتاب ترك المطير للأخرين ممن جايلوا ذلك الوقت او عاشوا الحادثة، فسحة للحوار حين أكد على أن من يتحدث عن مسألة معينة سيراها من زاويته الخاصة , وبالتالي ترك المجال لمن يريد أن يدلي بدلوه في هذا الصدد , سواء بالإضافة أو إبداء الملاحظة أو التعديل. غير انه توخى في من يريد التحدث او الكتابة في هذا الأمر أن يكون ملماً به أو يسعى للإلمام به ومراجعة من عايش الحدث منذ البداية بهدف تجميع موزائيك اللوحة كاملة قبل البدء بالكتابة عنها. هكذا طلب جاسم ممن كتب عن الحدث حينذاك , وهكذا يفترض أن يكون.
ومن هنا تبادر ” الصباح الجديد ” الى نشر سلسلة حلقات من هذا الكتاب الشيق.

الحلقة 6

جاسم المطير

كنت أتوقع من حسين سلطان حديثا ما عن قضية الهرب أو ما يتعلق بما سبق أن تناقشنا خلال اللقاء المشترك مع نصيف الحجاج وحافظ رسن عندما سلمناه مقالة مجلة تايم لكنه تجاهل الأمر تماما في تلك اللحظات وشكرني على الحضور كما أعلمني من جديد بضرورة التفكير الأعمق بتقديم خدمتي وجهودي الصحفية “داخل السجن ” لكنني تعمدت القول أن تفكيري الأساسي مكرس في هذه الأيام حول تحقيق فرصة الهرب الجماعي من السجن . لاحظت انه كتم انفعاله حالما سمع مني حديثي عن هذه المسالة مؤكدا لي أن هذا الأمر ليس من اختصاصنا ، ليس من اختصاص المنظمة السجنية ، إنما هو من اختصاص قيادة الحزب وعدم الالتزام بذلك معناه ان الفوضى ستعم داخل السجن وسترتبك العلاقة بيننا وبين الحزب ثم طلب مني إقناع حافظ رسن بأن أمر الهرب هو أمر سياسي يعود البت فيه لقيادة الحزب كما راح يؤكد أن اندفاعات حافظ رسن ناتجة بالأساس من ضغط مظفر النواب عليه وقد تشابكت لديه الجمل والعبارات في وصف مظفر النواب حين قال ما معناه ( أن مظفر يحمل أطروحات يسارية كما تعرف وهذه الأطروحات تدفعه للتطرف نحو اليسار كل يوم وأنا استشف أن جميع أفكار حافظ رسن وإصراره على عدم انتظار رأي اللجنة المركزية إنما هو بفعل مظفر النواب الذي يريد ، بقصد او من غير قصد ، ان يقلب موضوع الهرب رأسا على عقب وأنا أريد منك ان تستخدم علاقتك مع الاثنين لاحترام رأي المنظمة وقيادة الحزب ، وعلينا جميعا أن ننتظر القرار من الخارج كي يكون هو إشارة واضحة للانطلاق . علينا الآن أن نطوي صفحة الهرب ونؤجلها . .) .
بقيت صامتا ، مصغيا لحديثه المتواصل والذي كان يحمل نوعا من نبرة الانفعال المكتوم . كما أدركتُ في هذا اللقاء أنني معني بجميع الصفات التي أطلقها على حافظ رسن ومظفر النواب اللذين كانا يدينان ، علانية وباستمرار ، سياسة خط آب ونتائجها .
كان حافظ رسن ينتظر عودتي من هذا اللقاء في ساحة السجن الجديد . وما أن التقينا عائدين إلى السجن القديم شاهدنا صاحب الحميري وسلمنا عليه . لم أخبر حافظ بالتفاصيل لكنني أخبرته أن أبا علي يريدني أن أعمل باللجنة الثقافية وقد رجوته بإعفائي .
سألني حافظ : وماذا بعد .. ألم يتحدث عن فكرة الهرب ..؟
أجبته : نعم .. أكد من جديد على ضرورة انتظار رأي الحزب .
كنا على ثقة أن من الصعب أن يأتي الرأي سريعا أو يأتي بالإيجاب بسبب الأوضاع السياسية المتصاعدة والضاغطة على الحكومة التي جعلت الكثير من الناس في داخل السجن وخارجه يعتقدون أن العفو العام عن السجناء السياسيين سيصدر بأية لحظة وسيتم إطلاق سراحنا جميعا بأية لحظة أيضا . وهذا يعني تأجيل فكرة الهرب وربما إلغائها أصلاً .
كان الوضع السياسي في بغداد حادا وملتهبا ومرتبكا في نيسان ومايس 1967 فقد كان جمال عبد الناصر يهز العالم العربي ، كل يوم ، بخطاباته عن القومية العربية وضرورة انتصارها على العدو الإسرائيلي وعلى الامبريالية العالمية . أنه يحاول إثارة العرب ضد إسرائيل للانتقام من خسائر حرب السويس 1956 ومن هنا بدأت الشائعات التي تتداول في الصحف المصرية واللبنانية والعراقية تزداد عن قرب إطلاق سراح السجناء السياسيين في العراق بعفو عام يصدره الرئيس عبد الرحمن عارف رغم وجود من يشاغب على الشيوعيين العراقيين من ضباط قوميين معادين للشيوعية ” يقرؤون بإذن عبد الرحمن عن وجود دور للشيوعيين في مقتل شقيقه الرئيس عبد السلام بحادث تحطم طائرته بالبصرة عـام 1966 ”
الصحف العربية والعراقية كانت تبشر كل يوم بقرب صدور العفو العام عن السجناء الشيوعيين العراقيين وهذا ما ينقله أهالينا أثناء مواجهتهم لنا أو بالرسائل البريدية القادمة إلينا من بغداد والبصرة وغيرها . كما أن العديد من رسائل زوجتي سميرة محمود التي تأتيني كل يوم من بغداد ، أو بين يوم وآخر ، كانت تؤكد أن يوم لقائنا هو قريب جدا . وكانت سميرة في تلك الأيام قريبة في بغداد من قيادة الحزب .
في ذات الوقت كانت الصحف الغربية تشير إلى احتمال قيام حرب بين مصر وإسرائيل خاصة إثر تشكيل وحدات عسكرية مصرية قيادية جديدة وبسبب أوامر جمال عبد الناصر وخططه في حشد القوات على طول الحدود المصرية الإسرائيلية .
هذه الأخبار انعكست بدورها داخل السجن حيث كان السجناء يستخلصون من نشرات الأخبار بعض الاستنتاجات عن قناعات معينة بقرب صدور قانون العفو العام الذي سيشمل السجناء العسكريين على الأقل بسبب وقوف حكومة عبد الرحمن عارف إلى جانب الحكومة المصرية وبسبب الاستنتاجات عن قيام حرب جديدة مع إسرائيل . في الواقع أن مثل هذه الاستنتاجات كانت ازدادت بين السجناء بعد ورود خبر أن وزارة الدفاع العراقية تفكر بإعادة الكثير من الضباط الشيوعيين المفصولين إلى الخدمة الفعلية وخاصة ضباط القوة الجوية فكان جميع العسكريين في السجن الذين نتناقش معهم يعتقدون بصحة هذه الشائعات ما عدا الملازم فاضل عباس الذي كان يسخر منها . كذلك كان لهذا الخبر تأثير أيضا على بعض السجناء الذين ينوون وضع خطة الهرب ورغم أن مظفر النواب وحافظ رسن كانا غير آبهين بالإشاعات و ينويان البدء فعليا بوضع خطة الهرب رغم أن حسين سلطان كان يبشر بضرورة انتظار رأي وموقف اللجنة المركزية .
من هنا كان الجدل مستمرا بيننا حول الوصول إلى ترتيب خدعة كبيرة يمكن ان نخدع بها إدارة السجن وبعض عملائها المتعاونين معها في ” داخل السجن ” لصالح عملنا من اجل تحقيق حريتنا بأيدينا .
سيطرت علينا في تلك الأيام أسئلة كثيرة نغذي بها لقاءاتنا اليومية المتواصلة وكان تبادل الأفكار بيننا يقوي لدينا ضرورة الاعتماد على ” الداخل ” بصورة مطلقة أي أننا لا نريد أن نشغل الحزب بهذه القضية الشائكة بعد أن واجهنا الأسئلة الرئيسية التالية في لقاءاتنا :

هل نبدأ العمل أم نؤجل .. ؟
هل نواصل النقاش مع قيادة الحزب ..
هل من الصحيح الانتظار آو الصحيح هو الإسراع ..
هل يمكن الثقة بعبد الناصر ونحن نعرف جيدا نزعاته السياسية ..
هل نتوقع فعلا موقفا جديا من عبد الرحمن عارف بإطلاق سراح السجناء ونحن العارفين بأنه لا يحل ولا يربط ..
هل يمكن إجبار عقولنا على تصديق إشاعات الصحف المصرية والعراقية ..؟
تلك كانت الأسئلة الرائجة بيننا في تلك الأيام . هذه الأسئلة في الواقع كان لها دور ايجابي في زيادة وعينا وفي وصول نقاشنا إلى ضرورة واحدة تحمل معنى واحدا يقوم على استمرار فهم التعارض القائم بين السجناء السياسيين وحكومة عبد الرحمن عارف وبنينا أفكارنا على فهم هذه العلاقة من دون الخضوع إلى تزيين الصحف المصرية والعراقية الذي يحمل عبارات التطمين لهم ولعائلاتهم الضاغطة على دوائر الدولة ، مثل وزارة العمل والشئون الاجتماعية ومديرية الأمن العامة والقصر الجمهوري في بغداد ، والمنادية بصدور قانون للعفو العام عن السجناء الشيوعيين .
هذا هو السبب الرئيسي للتريث والانتظار الذي كان يبشر به حسين سلطان الذي كان يطمح أن يتم الهرب بالتعاون التام بين ” الداخل ” و ” الخارج ” أي بين منظمة السجن واللجنة المركزية . ولم يكن الصراع واضحا في تلك الأيام أمام عيون السجناء بين كتلة عزيز الحاج وقيادة الحزب بما فيهم منظمة سجن الحلة . لم يكن صحيحا رأي حسين سلطان الذي أورد شيئا من هذا القبيل في مذكراته على اعتبار أن انشغال الحزب بهذا الصراع هو السبب في التوجيه بالتريث أو التأجيل .
بعد ستة أيام أو سبعة كان موعد المواجهة . وقد جاءت زوجتي المرحومة ( سميرة محمود ) وهي تحمل بريد اللجنة المركزية إلى منظمة الحزب داخل السجن . وقد تم تسليم البريد إلى حسين سلطان فورا وحال استلام نصيف الحجاج للبريد من يد سميرة . بعد حوالي عشرة دقائق طلب حسين سلطان اللقاء بها ليحملها رسالة شفوية لا ادري ما هو مضمونها ، ثم سلمها رسالة منه شخصيا إلى اللجنة المركزية قبل انتهاء فترة المواجهة بقليل مؤكدا عليها بضرورة الجواب السريع . كما جاءت شقيقة حافظ رسن بنفس اليوم وقد كلفها حافظ بالبحث عن بيت قريب للسجن لاستئجاره وقد أخبرها مباشرة بفكرة الهرب عن طريق نفق يربط السجن بالبيت المراد تأجيره وفقا للطريقة البرازيلية نفسها.. وقد كان واثقا بقدرة شقيقته على انجاز هذه المهمة رغم أنها ليست حزبية لكنها نشيطة الحركة وقادرة على تنفيذ ما يكلفها به شقيقها حافظ من مهام وواجبات مختلفة .
بعد انتهاء المواجهة انتقل بيننا سؤال كبير : ما العمل ..؟
وقد شعرت ُ أن صداعا في رأسي يمنعني عن الجواب السريع .
نفس الصداع موجود لدى الآخرين حتما . وربما لا يزول الصداع إلا بعد أن تأتينا أخبار المواجهة القادمة .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة