طيران مبكر فوق سماء مضطربة!

الحداثة التشكيلية العراقية:

اسماعيل زاير

بدأ الناقد والفنان الراحل جبرا ابراهيم جبرا مداخلته ، نهاية الخمسينيات ، حول « الفن الحديث في العراق « بدايةً استشرافية مفعمة بالنبوءات الطيبة .. ورأى ، وهو ينظر بعين الخبير والشريك معاً « ان الحركة الفنية الحديثة في العراق تتقدم بسرعة عجيبة « ، وقبل ذلك سجل ملاحظته الملهمة عن القوة التعبيرية في اعمال الفنانين العراقيين تلك « التي تشير دوماً الى شخصية الفنان الإيجابية «.
والآن ، بعد زهاء نصف قرن على تلك الشهادات ورحيل جبرا والجيل الذي اطراه، ما تزال الحركة التشكيلية العراقية محافظة ً على ديناميتها ، وما زال الفنان العراقي « ايجابي الشخصية « . طبعاً ثمة اشياء كثيرة تغيرت في مشهد الخمسينيات المثير وتقلبت وتائر التقدم ، ولم يعد في وسعنا التغاضي عن تعثرات تلك الحركة ، لا سيما ونحن قد دخلنا القرن الواحد والعشرين بما يحمله من دلالات لا تقتصر على الدلالة الرمزية لتخطي البشرية عتبة من عتبات وجودها الحي ، بل تتجاوزها الى اثارة سؤال المراجعة الملح والمهم بسبب الظروف الإستثنائية التي تعيشها الثقافة والفنون في بلادنا وفي العالم الثالث قاطبةً .
الأمر الجوهري هنا ، والذي ينطوي على بعض العزاء اللازم لنا ، هو ان الحركة التشكيلية العراقية ما زالت ، وبرغم كل العوائق الصعبة تواصل السير نحو وجهتها . ويكفي القاء نظرة سريعة على المشهد التشكيلي العراقي لنجد اننا امام حركة فنية تتجاوز في حجمها تلك النخبة المعدودة على اصابع اليد؛ التي قادت عملية الإختراق التاريخية التي تحدث عنها جبرا ، والتي وصف انجازها، لاحقاً ، شاهد آخر هو بلند الحيدري بأنها « مغامرة من يحرث بأرض بكر».
هنالك الآن عدد هائل من الفنانين العراقيين يجتمعون تحت راية الحداثة التشكيلية، وكم مماثل من الإنتاج الإبداعي متنوع التقنيات يكفي لملء متاحف عديدة ، واكثر من ذلك ما زال الهم البصري يشغل الفن العراقي ، على اختلاف اجياله ، وتتجسد ابحاثه بوضوح لكل مراقب. ولكن يتعين الإقرار بأن المشهد العام لم يعد يتميز بالروح الرومانتيكية والشحنة الإقتحامية نفسها التي عبر عنها الجيل الاول، بل دخلت الى المشهد عناصر كثيرة غير ايجابية على الإطلاق، بعضها جاء من خارج الفن والفنانين ، وبعضها جاء بالأحرى من الداخل.
يفترض ان تقدم النصوص والوثائق التاريخية عن أي ظاهرة انسانية ، وما يرافقها من دراسات وتعريفات ومعطيات ، صورة هيكلية في اقل الأحوال للمتلقي. الا اننا ، وبقدر تعلق الأمر بالظاهرة التشكيلية العراقية نجد انفسنا ازاء مشهد مضبب غير واضح ، وتختلط فيه الوقائع بالإفتراضات ، الأوهام بالحقائق. ولعلنا لا نبتعد عن الواقع بقولنا ان لهذه الصورة ، بما فيها وعلى رغم ما فيها ، منطقها المتكامل وفرضيتها العامة ، ولكن المشكلة تكمن في ان تلك الصورة لا تفسر الماضي ولا تساعد على تفهم الحاضر.
بعد زهاء نصف قرن على مساعي اجيال عديدة من الفنانين والنقاد ورثنا هيكلاً وصفياً مليئاً بالإطناب والتقريظ لا يكاد يمس عصب الحركة الجوهرية للفن التشكيلي وحداثته في العراق. ونجد انفسنا بحاجةٍ الى نفض الغبار عن حداثتنا وتاريخها بالذات اذا ما اريد لمنظومتنا المعرفية ان تقدم الخدمة التوثيقية والنقدية المطلوبة للإنتقال من فرضيات الهيكليات السابقة الى فرضيات تكتفي بتسجيل الحقائق وتنظيمها وتقييمها بما يسمح للجيل الجديد ان يلتحق بحركة العالم المتقدم بالطريقة التي التحق فيها اسلافه الرواد .
إن مهمة تشريح ملف الحداثة التشكيلية والحداثة بوجه عام ، في العراق وغيره من بلدان العالم الثالث ، تحولت الى ضرورة لابد منها. بل ان العملية تأخرت اكثر مما ينبغي ، وباتت تتطلب اكثر من المجهودات الفردية المنعزلة والخجولة، جهداً أوسع يتولى مراجعة ومعالجة الركام الهائل من المقولات والمنطلقات الملتبسة التي سادت محلياً وإقليمياً ودولياً . من هنا فقط ، وبعد انجاز تلك المهمة، بوسعنا الشروع في تأسيس منهجي لذاكرة فنية انسانية متسقة وتستجيب لمتطلبات فهم المسار المركب للحياة الثقافية المحلية ضمن اطار عالمي شامل .
ان فتح الباب امام تجارب الفنانين الشباب لتبين طريقهم الفني وافساح المجال لهم لقول كلمتهم في الواقع الراهن وفي الطريقة التي يرون فيها مستقبلهم الفني لا بد ان يمر عبر تخليص الذاكرة الفنية التشكيلية من الألتباس المنهجي المتراكم خلال عقود من الخلل الإجتماعي وا لنكوص.
فالأطروحات التي وضعت لتتواءم ومصالح القوى الإجتماعية والسياسية التي ادارت العراق كرست كما هو منظر منها منظورها للفنون ووظائفها المرتجاة. وفعلت تلك الأطروحات والمضامين والمفاهيم فعلها مقدمةً خدمات كبيرة لأصحاب « العقول الخاملة « كما يقول جبرا ابراهيم جبرا. ولكن ضرر « ذوي العقول الخاملة « سيبقى ثانوياً بالمقارنة مع الضرر الذي الحقته القوى السياسية التي تحكمت منذ أربعة عقود بمصائر الأجيال الثقافية العربية وثقافتها.
فبرغم مرور اكثر من خمسة عقود على انطلاقة الفنون التشكيلية العراقية ما تزال هناك حاجة ماسة وملحة لوضع تعريف لمفردة « الحداثة التشكيلية « بما يسمح لإدراك ماهيتها وما نقصده عندما نتطرق اليها كمعطى لا غنى عنه للجدل الفني او الممارسة المباشرة .

عقد الخمسينيات
و «الإنقلاب الملون» !
وللنظر الى المشهد التشكيلي من زاوية تأريخية يجب ، بادئ ذي بدء ، التوكيد على ان الصحوة الفنية التي شهدناها في العراق بين أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات ، قلبت صورة الفن التشكيلي رأساً على عقب الى القدر الذي جعل جبرا ابراهيم جبرا يصف في مذكراته ما كان يحدث بأنه « حركة انقلابية في اساليب الرسم « . بينما كانت قد طويت اربعة قرون سود من حكم السلاطين العثمانيين، بما مثلته من غياب وظلمات ثقيلة الوطأة في العراق وغيره من البلدان التي ابتليت بهم . وقد تكفلت تلك القرون المدلهمة ، ضمن اشياء عديدة اخرى ، بمحو وملاشاة ما كانت التجارب والموروثات الفنية والجمالية حتى القرن الخامس عشر الميلادي قد راكمته في ذاكرة الشعوب العربية والإسلامية من تجارب وتقاليد ليست مدرسة بغداد للفنون في القرن الثالث عشر الا وجهاً واحداً من وجوهها .
ولا يمكن للمراقب المنصف والموضوعي ان ينكر ، ما لم يكن يتقصد العبث بالتاريخ والذاكرة ، ان « السلاطين العثمانيين « الذين انشغلوا بالنهب والقمع والتتريك ، لم يهتموا بأن يتركوا لنا بيئة اجتماعية للفن او تنمية اساليب مميزة للفنون البصرية حتى بمقاييس ما قبلهم ، ناهيكم عن مقاييس الفن المعاصر، فالفنون التي سادت قبل الاربعينيات في بغداد ، وبقية العواصم التي قيض للسلاطين العثمانيين ان يحكموها ، انما كانت صورة من صور الإرث التركي البليد والخامد ولا تتجاوز زخارف جدارية وما تتطلبه الفخاريات ، أو تنويعات على الحروف والخط والنقوش المكررة مما تقتضيه حاجات الجوامع والدواوين والقصور العثمانية والمملوكية وغيرها .
ومع اضمحلال الدولة العثمانية وانتقال الحملات الإستعمارية الى المنطقة ووراثتها للحكم العثماني « المريض « ، بدأت المنطقة بتلقي ونقل تعبيرات تشكيلية جديدة انضجتها حركة الفنون في اوروبا والغرب . وجاء هذا النقل اول الأمر عبر المؤسسات العسكرية التي استوعبت بعض الضباط العرب والأتراك ، ومن ثم عبر أرسال المبعوثين من ابناء البلاد .
وبوسعنا ان نعثر ، في بواكير هذا التحول ، على صيغ بسيطة لفنون الغرب الأوروبي ، وخاصة في بريطانيا وفرنسا ، لا تتجاوز في افضل تعبيراتها الرسوم الطبيعية والمناظر الساذجة ، موضوعها النهر والصحراء والخيم وتجسيدات فولكلورية والبورتريت التقليدي بصيغته الساذجة التي اعتدنا على رؤيتها في رسوم الأستشراق . وتشير المصادر التاريخية الى ان الممارسة الفنية آنذاك كانت تلبية لحاجة ضباط الحملات الإستعمارية واشباعاً لهواياتهم، اكثر منها نزعة أو سياسة ثقافية مقصودة لنشر الممارسة التشكيلية المعاصرة بالشكل الذي كانت عليه في بلدانهم الأصلية .
وكان يتعين ان ننتظر عشرات السنين قبل ان تتبلور تجربة الفنانين العرب وخبراتهم ومعارفهم ، ويعلنوا حضورهم القوي كطليعة واعية لدورها وادواتها الجديدة ، لا سيما « انهم استوردوا المحراث من اوروبا ليحرثوا فيه ارضهم « كما يقول بلند الحيدري . ولم يكن من اليسير على الفنانين الجدد ان يشقوا طريقهم من دون قوة الإرادة والحماسة كنخبة تتصدى لخلق تجربة محلية تتواءم وتتكامل مع صورة التجربة الحسية والتقنية للنخب الأوروبية المشابهة .
وتشير الشهادات التاريخية الى ان انصار القديم ، سواء على مستوى الأدب او الفن حاولوا عبثاً وقف حركة التمرد الثقافي والفني هذه « ونسبوا الى الفنانين تهماً شتى منها تهم سياسية وغير سياسية « دخل الجدل حول الأساليب والمضامين الى قاموس الحركة الفنية العراقية ودشن ما يمكن ان نطلق عليه « حداثة فنية تشكيلية « عراقية بالمعنى الواسع . وخلال انجاز الفنان العراقي المعاصروممارسته ومعاركه الفكرية ، وليس على يد نقاشي جدران وخزافي القرون العثمانية ، رسخت تلك الحداثة مسارها وعمقته مكرسةً خطاباً تشكيلياً معاصراً بصيغة وملامح وأساليب محلية الطابع ولجت منها اجيال من الفنانين بوابةً التجربة التشكيلية المشهودة الى فضاء العالم الفسيح .
لقد هزت الحرب العالمية الثانية والحوادث التي تلتها « القشرة السطحية لأرض العراق وحملت اجيال الشباب المثقف على البحث عن انفسهم « كما يقول الناقد الراحل بلند الحيدري ، ولكنهم سرعان ما ادركوا انهم انما « يبدأون من الصفر.. صفر في البحث .. فالفنانون كانوا يجهلون تراثهم من ناحية ويجهلون الفن الأوروبي «.
مع الزمن وتطور التجربة الفردية وتنويعاتها ، ومفرداتها ومضامينها ، وبما تؤججه من منافسات محتدمة للوصول الى ابداع تشكيلي متوافق مع المشهد الواسع للفن الحديث في العالم ، بدأنا نتلمس ما يمكن ان نطلق عليه : المرجعية الفنية للتجربة التشكيلية العراقية ، وهي مرجعية تحمل قلقها ومقدرتها على التطور وارجحيتها في التعبير عن تمايزها وتبلورها بقدر من المقادير. فهي كانت مثل أية مرجعية حية تتغذى من انجازات الفنانين ، وتكتسب ارضية اقناع وجدل وتفاعل حضاري وتقني من خلالهم . وقد قيض لهذه المرجعية ان ترفع الغطاء عن موروثها الفني والثقافي ما قبل ـ العثماني ، وتجري عليه المراجعات الضرورية ليصبح جزءاً من ذاكرة الفنان العراقي المعاصر .
وإبتداءاً من هنا يمكننا تفسير ومتابعة الطاقة المندفعة التي اكتسبتها الحداثة العراقية . فالتجربة ، فردية كانت أوجماعية ، وتفاعلاتها المتبادلة فيما بينها ، من جهة ، ومع الحلقات التحديثية العربية الاخرى من جهة ثانية ، هي التي افضت الى بروز حقائق مستجدة وبلورة تيارات فنية عديدة على حساب المفاهيم والتجارب القديمة.

  • مقطع من مادة طويلة

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة