عمار داود
لم تكن صورا كاريكاتورية ، تلك التي أبدعتها التكعيبية بعد أن تمردت على شروط ومظاهر الرسم المدرسي الأكاديمي ، بل كانت صورا قائمة على فكرة استحضار الأصل الهندسي للأشياء وتحوير أشكال مفردات عالمنا المرئي بما يحتويه من كائنات حية وجمادات من دون ان تكون هذه الصور رسوما ساخرة أو محورة بطريقة تثير الضحك.
وحين اكتشف الفنان الروسي الاصل (فاسيلي كاندينسكي) رسما (نقيا) بجانب الرسم الاعتيادي، وهو رسم لا يحيلنا الى الأشياء العينية التي نطالعها في الحياة اليومية، بل الى عالم زاخر بالمفردات المجردة من الأصل الواقعي. لم يضع هذا الفنان في حسبانه ان ينتج زخارف لستائر او سجادات بالمعنى الديكوري، بل لوحات هي من منتجات ( الضرورة الداخلية ) كما عبر عن ذلك في كتابه ( الروحانية في الفن ). وحتى الكلام الاعتيادي الذي يستعمله الشاعر المعاصر، لا يقدم لنا شعرا بالصيغة ذاتها التي يقدمها لنا الكلام الاعتيادي في حياتنا المعيشة. فهو» لغة ضمن لغة « وهكذا الحال مع الفن المفاهيمي، فهو لا يقترن بطريقة البث الخاصة بالملصقات الإعلانية المتوافرة على المباشرة وتبسيط الفكرة لأجل تمريرها بأسرع وسيلة للاستيعاب.
وفن الفوتو ليس فوتوغرافيا صريحا في طبيعته. وليس فن الحدث مسرحا بحتا ولا فن الفيديو سينما. والفن الجاهز الذي خرج علينا به الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب، وما انبثقت عنه من اتجاهات تأثرت به، مثل فن البوب الاميركي، أبقى على خيطه الخفي الرفيع الذي يفصله عن الطابع المألوف لأشياء عالمنا.
وإن لم يكن الحال هكذا، فالسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: أين الفن؟ وأين الرسم؟ ما زلت مؤمنا أن الفنانين من أصحاب الفتوحات الكبرى في الفن وعوا وأدركوا أن الحرية الإبداعية لا يمكن لها ان تطمس الحدود الخفية بين الأصناف المختلفة لاتجاهات الفن ومدارسه ، وإلا لما كان يسيرا ان يتم الحكم عليها كأصناف، ولكنهم في الوقت عينه أدركوا أن وضع حدود واضحة سيحوّل الفن الى ضرب من ضروب العلم له شروط وقوانين يتعلمها الفنان الناشئ ، وهي صفة لا يمكن ان تكون من صفات الفن .
أعتقد انهم ارتكبوا فضيلة كبرى، مفادها أنهم الباب مواربا لكل ذي حس رهيف وحدس قوي حتى يتسنى له أن يمارس حريته في التلقي، ولكن شريطة أن يبقي على ذلك الخيط الرفيع الخفي والفاصل.
وهنا تكمن الموهبة الحقيقية في التواصل مع العمل الفني. هل سنقول إذن: أن الفن ألغى الحدود بين الأصناف ولكن أبقى على تلك (الحدود الخفية ) التي نشعر بها حين نطالع منتجات الفن التكعيبي من دون ان نصفها بالكاريكاتير؟ والفن التجريدي ليس نماذج زخرفية / ديكورية صالحة للفن التطبيقي. والفن المفاهيمي ليس ملصقا او اعلانا سياسيا أو تجاريا لتصريف بضاعة او نشر فكرة لمشروع سياسي . وهكذا الحال مع فن الفوتو والحدث والفيديو والتنصيب ؟ لا شك في أن فن اليوم يعاني بشدة من اشكالية فرض او إلغاء الحدود ، ومع ذلك فلدينا اليوم العديد من الفنانين والرسامين المعروفين الذين وعوا وأدركوا حجم وخطورة هذه المشكلة فحافظوا لهذا السبب على ذلك الخيط الخفي الفاصل ولكن المشعور به من أجل تكريس الشخصية المميزة لأصناف الفنون المختلفة .
إن واحدا من دواعي كتابتي لهذا النص متعلق بإشكالية الفهم التي اعتقد ان عددا من فنانينا قد وقع فيها ، فالعين الحاذقة والخبيرة سترى أن واقعا فنيا جليا يفتقر الى وعي الحدود الخفية بين الأصناف المختلفة قد ظهر على السطح منذ أن بدأت عملية إدراك ووعي أساليب التواصل البصري وثقافته الجديدة وما تحتويه من تقنيات ووسائل ، من دون ان ينال هذا الافتقار نصيبه من النقد والتنبيه ، حتى انه توسع بشكل مُلفت للنظر ! فلنقل بصراحة ولكن من دون أن نعمم : لدينا اليوم أعمالا كاريكاتورية تنسب خطأ إلى فن الرسم بدلا من ان تنسب الى الرسم التوضيحي او الساخر وهو صنفها الأكثر مطابقة ! لدينا فنانون صنعوا أعمالا في فن الرسم والنحت والتنصيب وفن الفوتو والفيديو وهي في حقيقتها لا تعدو ان تكون سوى اعمالا إعلانية صريحة ومباشرة وفي اغلب الحالات تتوسل بمضامين تلبست بروح السطحية والسذاجة .
ففن الحدث مثلا ، الذي تعود منابعه إلى الدادائية والسوريالية ، لا يعتمد على حدث متسلسل بشكل مخطط مسبقا ، بل يعتمد على حالة الارتجال ، التي يمكن لها أن تبدأ في أي وقت كان في أثناء تتابع الاحداث التي يصنعها كل من الفنان والجمهور على السواء ، فمن مميزاته الهامة التحريض لتوريط الجمهور في توجيه مسار الأحداث في اتجاهات مختلفة وقد تبنى استراتيجية التأثير على المتلقي وإحداث رد فعل عنده اثناء معايشته للحدث مما يدفعه الى ان يجد نفسه مدفوعا للمشاركة فيه وتوجيهه . لكن فن الأداء بالمقابل يعتمد على الإيماءة والطقس المسرحي ، الامر الذي يميزه عن فن الحدث ، فمن شروطه تحييد الجمهور ، وعدم السماح بمشاركته في سير الأحداث . يمكن حوصلة النشاطين بالشكل التالي : نشاط يشتغل ببوصلة ونشاط ثانٍ بدونها . لكن كليهما معني بالحدث كمحور أساسي .
سقت هذين المثلين للتدليل على الفروق ما بين النشاطين رغم أن كليهما مهتم بالحدث كما أسلفت ، فكما هو واضح ان الفروق هنا لا تبدو جلية من النظرة الأولى .
هناك أيضا مفردة الجسد المستخدمة مرارا في فن الأداء ، فهل يا ترى يمكن إيجاد حد فاصل ما بين الأداء وفن الجسد ؟ المعروف ، أن فن الجسد يعتمد على مبدأ شيأنة الجسد ، أما فن الأداء فيكون للجسد فيه دور المعنى أو الكلمة ، وبصيغة اخرى يكون شيئا إشاريا في هذا الفن ، في حين الجسد في فن الأداء هو عبارة ومعنى .
تماما كما هو الأمر مع الخط الفاصل ما بين الفلسفة والنشاط الإبداعي في الفن المفاهيمي ، فالفيلسوف يستخدم الكلمات والأفكار لإيصال خطابه وهو يهتم بالمعاني التي تبثها كلماته وجمله ، في حين يقوم الفنان المفاهيمي بتحويل المعاني والأفكار الى أشياء عينية تتواجد في فضاء العرض « من الصعب ان يكون فنان اليوم فنانا من دون ان يكون في الوقت نفسه فيلسوفا « بهذه الكلمات شرع الناقد ( يان فرانجويس ليوتارد ) Jean-Francois Lyotard في تحديد رؤيته لمستقبل الفنان ووعيه.