بطولات أربعة بربع

ما يطفح من عينات وظواهر غرائبية على مسرح أحداث عراق ما بعد “التغيير” يحتاج الى الاستعانة بخبراء دوليين في شتى مجالات الحياة المادية والقيمية، ولن نبتعد عن طبيعة الحاجات الفعلية لهذا الواقع، ان وضعنا الحاجة لعلماء نفسيين على رأس قائمة تلك المعونات الاممية. مشهد غاية في التعقيد والالتباس يستند الى كم هائل من عمليات خلط الاوراق والمفاهيم والقيم المتنافرة بعضها مع البعض الآخر، مشهد لا يعد فيه غير القليل من المتنطعين لهموم الفكر والاعلام، ظاهرة التقافز بين المواقع والمتاريس أمرا غريبا بل طبيعيا، حيث تجد من وصل لارذل العمر بسيرة مجللة بالذل والتواطئ والخنوع، وهو ينتقل عبر دقلة تباركها الجموع المثقلة بحطام المعايير، الى معسكر جيفارا والمهاتما غاندي ونيلسون مانديلا وهكذا دواليك… في احدى اروع الالتقاطات يفكك لنا سلمان رشدي مثل هذه اللحظات الملتبسة في حياة المجتمعات عندما يقول على لسان أحد أبطال رواياته: “عش مع الخزي والعار مدة طويلة، يصبح مألوفاً كشيء من الآثاث..”. هذا الوصف العميق يساعدنا على فك طلاسم الكثير مما نشاهده من دقلات وحفلات تنكرية صارت مألوفة كجزء من آثاث فلكلورنا وثوابتنا الجليلة.
لا يمكن للمجرم واللص والمشعوذ وكل من ادمن على الارتزاق على حساب القضايا النبيلة والحقوق العادلة والمشروعة لشعبه؛ التحول الى ضده النوعي بين ليلة وضحاها. اما كيف تسحق مثل هذه القواعد والمبادئ والبديهيات على تضاريس هذا الوطن المستباح، فذلك ما يدعونا الى الاستغاثة بتلاميذ فرويد وكارك غوستاف يونغ عسى أن تنتشلنا من مثل هذه المتاهات القاتلة. لقد شاهدنا جميعاً كيف تسلل الكثير منهم الى الاحتجاجات الاخيرة وقلبها “نصب الحرية” من دون ادنى شعور بالخجل من معنى ومغزى وشحنات ذلك النصب الوطنية والثورية والحضارية. تلك الجراة والصلافة على لعب دور “الأبطال” أو المكافحين من أجل الحرية والكرامة والحقوق، لم تأتي من فراغ، فهي تستند الى ذلك التراث الواسع من ثقافة الافلات من العقاب والذاكرة المثقوبة وضحالة الوعي واللامسؤولية التي تمهر جبهة المشهد العام بميسمها. مثل هذا الواقع الغرائبي بمعاييره المقلوبة يبيح لتلك المسوخ البشرية ان تجترح ما وضعناه عنواناً لمقالنا هذا “بطولات أربعة بربع”. البعض ممن استثمر في هذا الحطام يبرر تلك الدقلات والحفلات التنكرية عبر اسقاطات تاريخية بائسة، عندما يتسترون عليهم بعنوان من القرن الاول الهجري (التوابون)…؟!
أما حطام الانتلجينسيا والكتبة وما خلفوه من اسهالات متخصصة بالتستر على العمل الممنهج لاستغفال الناس، تحت وابل من الشعارات والديباجات والعناوين الجميلة؛ فلن نتوقع منهم أدنى مراجعة لسيرتهم الاولى، لانه وكما يقول المثل الشعبي (الطبع غلب التطبع). وهذا ما تعرفنا عليه قبل “التغيير” وبعده، عندما لم تحظى منهم مرحلة ما يفترض انها تتصدى لـ “العدالة الانتقالية” بمواقف وتعاطي عملي ونظري رصين ومسؤول، فعلى سبيل المثال لا الحصر، لم تحظى بواكير التظاهرات التي انطلقت في شباط من العام 2011 بكتابات ودراسات تنأى بنفسها عن تقاليد التمجيد والتبجيل البائسة. لذلك شاهدناهم كيف يتملقون لـ “عفوية” الاحتجاجات الاخيرة وعدم وجود قيادة وقائمة مطالب واضحة وواقعية ومتفق عليها من قبل المحتجين. بالرغم من ارتفاع صوت من يصفهم الماغوط بـ “العدائين وراكبي الدراجات” عند مفترق الطرق؛ ولا خيار أمام قضايا الكرامة والحقوق والحريات، الا أن تشق طريقها بعيداً عنهم..

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة