عندما نبحر في بطون الكتب ، ونطلع على ثقافات ومعارف الامم والمجتمعات ، نجدها تفرد مساحات ليست قليلة ، للحديث عن الوفاء ، بوصفه سلوكا انسانيا ، يعد مرتكزا لبناء حياة يسودها التعاون والإيثار ، ولا يتوقف الوفاء على الإنسان ، إنما نجده يتجسد في سلوكيات كائنات أخرى ، ومعنى هذا ، ان هذه الصفة ، ليست مكتسبة ، بل هي موجودة في الكائنات ومنها الإنسان بالفطرة التي فطر الله مخلوقاته عليها ..
ولذلك، فان المجتمعات التي تهتم بالوفاء لابنائها ، من خلال تثمين وتقدير عطائهم ، نجدها ، مجتمعات متماسكة وكثيرة العطاء ، عكس تلك المجتمعات التي تتنكر لعطاء الابناء ، فيسودها التفكك ، والضياع ، فتصبح «نهزة الطامع ، ومذقة الشارب ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام».. ومن هنا تأتي أهمية التأكيد على ضرورة الوفاء ، لكل من قدم جهدا او عملا اسهم من خلاله في خدمة المجتمع والدولة ، .. ولكن مايؤسف له ، ان قيمة الوفاء عندنا ، تنخفض الى درجة التلاشي في بعض المفاصل المهمة ، ما يخلق حالة من التذمر وردود الفعل السلبية ، التي تؤدي في نهاية المطاف ، إلى حدوث أضرار بالغة في مصالح المجتمع ، فعدم الوفاء ، للابناء الذين بذلوا المزيد من العطاء ، سيؤدي إلى احجام الآخرين عن التقدم لتقديم الخدمة ، فينقطع سبيل المعروف ، كما يقال .. وإذ اتحدث بهذه اللغة ، فليس معنى هذا انني اريد ان اتقمص ، شخصية الواعظ ، بقدر ، ما أردت الحديث عن حالة اجتماعية تبدو غريبة في واقعنا العراقي ، فقبل أيام حضرت لقاء جمع وزير التخطيط د. نوري الدليمي ، بوفد يمثل المجالس البلدية للاقضية والنواحي في عموم العراق ، وكان اعضاء الوفد قد تداعوا من شتى المحافظات الغربية والشمالية والوسطى والجنوبية ، جمعهم هم واحد مشترك ، ذاك هو قرار الغاء المجالس المحلية للاقضية والنواحي ، من دون النظر لنتائج هذا القرار ، وتداعياته على المستويين الخدماتي ، والاجتماعي .
شعور بالخذلان ، كان يجتاح هذه الشريحة التي مثلها هذا الوفد ، يبلغ تعداد اعضاء المجالس المحلية ، نحو ٣٥٠٠ عضو ، انتابهم هذا الشعور المؤلم ، بعد ان وجدوا انفسهم بين عشية وضحاها على قارعة الطريق ، وكأنهم جاءوا من كوكب اخر ، وآن لهم ان يعودوا الى كوكبهم الذي قدموا منه ..
٣٥٠٠ انسان ، وبقرار يبدو لم يكن مدروسا ، وجدوا حالهم من دون عمل او وظيفة ، بعد الذي قدموه من خدمات للناس ، فالمجالس المحلية ، دائما هي الجهة التي يعرفها الناس ويقصدونها لقضاء حاجاتهم ، شريحة قدمت الكثير من التضحيات ، فمن بينهم استشهد ٧٠٠ عضو مجلس بلدي في شتى انحاء العراق ، في الفلوجة وحدها استشهد ٥ من رؤساء المجلس البلدي للقضاء ..
هل من المعقول ان يُجازى هؤلاء بهذه الطريقة التي تفتقر الى الانصاف ، بلا عمل ، حتى الذين كانوا موظفين في مؤسسات اخرى ، لم يعد بامكانهم العودة الى عملهم ، لان دوائرهم ، ملأت امكانهم بغيرهم ، ومن دون تقاعد ، ومن دون اي حل يمكن ان يحفظ لهم كرامتهم وينصفهم ويثمن الخدمات التي قدموها لاهلهم والوطن ..
يقولون ، ان الوفاء يزيد العطاء ، فإن لم نوفي مع هؤلاء ، فان عطاء غيرهم سيتراجع ، لان الاخرين عندما يرون نهاية من سبقهم بهذا النحو المزري ، فانهم سيحجمون عن التقدم والتصدي للمهمة ..
حقا ، إني شعرت بالتعاطف معهم ، اذ كان ينبغي ان نفكر بالحل قبل الحل ، لكي نحفظ لهذه الشريحة كرامتها ، وهي التي حافظت على كرامة الناس ..أليس كذلك ؟
عبدالزهرة محمد الهنداوي