يسقط العسكر

هذا هو أحد الهتافات التي تردد صداها في تظاهرة 30 حزيران والتي تختزل مشوار طويل من معاناة الشعب السوداني مع زمرة الجنرالات المغامرين والمتعطشين للسلطة والامتيازات، والذين الحقوا أفدح الاضرار طوال أكثر من نصف قرن بالمصالح الحيوية لشعوب هذا الوطن المنكوب. ان اصرار المجلس العسكري الانتقالي على منهج المماطلة والتسويف، في مواجهة مطلب السودانيين الواضح والمشروع، أي تسليم السلطة الى حكومة مدنية انتقالية؛ يكشف عن طبيعة النوايا الفعلية لزمرة الجنرالات المستلقية على مفاصل المواقع العسكرية والامنية في بنية النظام الذي تشكل طوال 30 عاماً من حكم الجنرال المخلوع عمر البشير وعصاباته الاسلاموية، وهذا ما كشفت عنه الحوادث الدامية لفك الاعتصام امام مقر قيادة الجيش، والتي أودت بارواح أكثر من مئة معتصم سلمي، وما تبعها من مواقف مريبة وملتبسة لخلط الاوراق وبث الرعب ومناخات التشرذم بين صفوف السودانيين، وهذا ما يمكن تلمسه بوضوح في سلوك ونشاطات جنرال الدمج ونائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو المشهور بـ (حميدتي) المحلية والاقليمية وسعيه لتسويق نفسه كبديل لزعيمه القابع حالياً في سجن كوبر.
هذا الشعار “يسقط العسكر” يستهدف النزعة الطفيلية التي اشرنا اليها، والتي تغولت بشكل يتنافر وحاجات المجتمع الاساسية، أي ان تعود هذه المؤسسة المهمة الى الاهتمام بوظائفها التي وجدت من أجلها، بعيداً عما انخرطت فيه من شغف وولع بالقبض على جميع السلطات، كما جرى لا في السودان وحسب بل في غالبية بلدان المنطقة وعلى رأسها مصر، البلد الام لمثل هذه القسمة العاثرة (العسكر أو الاسلاموية) والتي انتهى بها المطاف الى ممثل الثكنات الجنرال السيسي. ان معركة السودانيين تدخل من خلال المواجهات الاخيرة مع العسكر، الى طور هو الأخطر والاقسى في مسيرتهم صوب ولادة سودان جديد، تؤسس فيه السلطات والمؤسسات المستقلة على انقاض الركام السياسي والعسكري والقيمي الذي خلفته حقبة عسكرة الدولة والمجتمع. انها مرحلة حاسمة في تاريخ السودان الحديث، سيحتاج فيها المتظاهرون وممثلي المجتمع المدني السوداني ورأس رمحه “قوى الحرية والتغيير” الى مساندة الجنود وصغار ضباط الجيش السوداني؛ كي يضعوا حداً لغرور وغطرسة زمرة الجنرالات المسكونون بارث زميلهم القابع خلف القضبان.
ان طبيعة التحديات التي تواجهها قوى الحرية والتغيير في السودان، وبنحو خاص فيما يتعلق بتغول مؤسسة العسكر والميليشيات والاجهزة القمعية، والحاجة الى امتلاك مؤسسات سياسية ومدنية قادرة على ادارة مسؤوليات مرحلة الانتقال صوب الديمقراطية واطلاق مشروع التنمية الشاملة؛ هي مماثلة في جوهرها لما تواجهه غالبية بلدان المنطقة. لقد خلفت لنا ما يعرف بمرحلة التحرر الوطني ارثاً ثقيلا من الاخفاقات وسكراب المؤسسات الحزبية والعسكرية والاقتصادية، لذلك تجد هذه المجتمعات صعوبة وعسر في النهوض من وسط هذه الانقاض والفضلات السامة، وهذا ما تعرفنا عليه بوضوح فيما تمخض من الجولة الاولى لما عرف بـ “الربيع العربي” والذي امتطت سنامه جماعات وقوى وعقائد وفصائل، تمثل في الكثير من ممارساتها وغاياتها الضد النوعي لذلك المشروع الوطني والحضاري. ما تمثله الانتفاضة السودانية الحالية بنوع المشاركين فيها وبنحو خاص الدور الفاعل للمرأة (الكنداكة) والاتحادات المهنية والقيادات الشابة الجريئة والواعية وروح الايثار والتضحيات ونوع الشعارات والتكتيكات التي كشفت عنها؛ تؤشر جميعها على ولادة حراك مجتمعي يشكل انعطافة نوعية في تاريخ السودان الحديث…

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة