اديب كمال الدين والنص المقطعي الكتلي

علوان السلمان

(قال: البارحة قرأت لك مرثية لروح لم تمت بعد قلت: نعم..تلك هي روحي ) ج5/ ص320
النص الشعري بمجمل صوره ودلالاته اللفظية المعبرة عن الحالة النفسية باسلوب حالم وعمق دلالي يتداخل والسياق الجمعي بقدرة تعبيرية مختزلة لتراكيبها الجملية..مغامرة خلاقة يخوض غمارها منتج(شاعر)لتحقيق عوالمه الحلمية وخلق رؤيته الابداعية بتوظيف وسائل تصويرية وجمالية بسردية شعرية محفزة للتداعي بصفته حشد لغوي وكشف ادائي يتجسد بشكل رمزي يشير لدلالة اجتماعية تقترن بالوجود الكوني بتجاوزه لجغرافية المكان والمألوف لتحقيق التجربة الشعرية التي هي(عملية الحياة والحركة العضوية..) على حد تعبير هربرت ريد..وخلق عوالم تتناغم فيها الرؤى وتتفاعل مع انساق مكتنزة بالحيوية والدينامية..
وباستحضار الاعمال الشعرية التي انتجتها ذهنية الشاعر اديب كمال الدين بجزئها الخامس واسهمت دار ضفاف بنشرها وانتشارها/2019.نجد انها تتسم بخصوصيتها التركيبية ووحدتها العضوية مع ايحاء لفظي وتفرد في الايقاع والصورة التي هي (توسيع لافق اللحظة الشعرية) على حد تعبير ادونيس واللفظة الرامزة والفكرة المنبثقة من بين مقطعياتها النصية التي تقوم على الخيال الشعري وما يولده من صور شعرية وعلاقة احتدامية مع المكان.
ما دمت قد أنفقت عمرك
تتأمل في ميم المرآة
فكيف سترى
ميم الذي كان من العرش
قاب قوسين او أدني؟
ما دمت قد انفقت عمرك
وانت تضع قدميك الحافيتين
في راء الفرات
ليل نهار
فكيف ستركب غيمة
تحلق بك بعيدا؟ /ص13
فالشاعر في نصه المقطعي(الكتلي) يجمع ما بين المتعة الادهاشية والمنفعة الفكرية كرسالة يتبناها في مضمار الشعر من خلال التساؤلات التي تطرحها صوره المحتضنة للهم الذاتي والذات الجمعي الآخر مع تناص قراني وعاطفة مكتنزة بالوجد تكشف عنها تعابيره الكتلية التي تعبر عن لحظة تأملية متساءلة بإيجاز وتكثيف جملي متميز بعمق المعنى واعتماد النزعة البلاغية وتقنية الانزياح، اذ يحاول المنتج(الشاعر) ان يقدم صورا مشهدية تجمع بين المعنيين الحسي والذهني لتحقيق العمق التصويري بكل ابعاده التي تكشف عن الذات لتحفيز اثرها في ذاكرة الآخر بحوار ذاتي(مونولوجي) واثبات كينونته عبر صوره المتميزة بصفات دلالية منبثقة من نسيج مختزل، مكتنز بطاقة ايحائية مع توظيفه تقانات فنية كالاستفهام الباحث عن جواب يسهم في توسيع مديات النص، والتكرار الدائري(ما دمت…) التقنية الاسلوبية التعبيرية التي شكلت لازمته وعملت على خلق موسقة داخل وحدته البنائية، فضلا عن انه يعكس جانبا من الموقف النفسي والانفعالي الذي تفرضه طبيعة السياق وتآلفه مع الوجود بكل مكوناته ..
1 ـ رأيتك فجأة في أعلى الشجرة
ما كنت حمامة ولا بيضة ولا زهرة
بل كنت امرأة فدهشت لجمالك المطلسم
ونزلت أجر خطاي بوقار رمادي
على الدرج المرسوم على الشجرة
3 ـ يتكرر اللحن القديم
في صوت امرأة لا تصلح للغناء
لكنها تغني أبدا
في غدر امرأة سفحت دمي ودم الفرات
في طفولة امرأة غرقت بلغة الماء
في طعنة امرأة أبدلت السين بالشين
في قدر امرأة زلزلت حتى رأت الله /ص87 ـ ص88
فالشاعر في نصه المقطعي هذا هو الذات والموضوع وقوى النفس مجتمعة خالقة لمضامينه الموغلة في العمق، اذ يحاول بانفعاله الداخلي الذي هو انفعال نفسي وروحي يعاني الحقيقة فيستحضرها بذاتها التي تنقل اسراره في جو من الايحاء الذي يكشف عن اتفاق مع القيم الحياتية بشكل نفسي(سايكولوجي) يحقق امتزاج رؤاه الشعرية مع رؤاه الاجتماعية ونمو النص الذي لايمكن ان ينمو نموا عضويا الا اذا كان لدى الشاعر عصب حدسي ينسج الصور ويمدها بما يبقي على وحدة النص وانسجامه وتآلفه، فهو يتناول في نصه القيم الثابتة في الوجود سواء كانت خارجية تتمثل بالطبيعة ام داخلية تنحصر في النفس، هذا يعني اعادة سلطة العقل فيها وفعلية الواقع..لذا اهتم الشاعر بالطبيعة وتآلف معها وكأنها غاية بذاتها، فضلا عن ان النص يعتمد الوقوف على الروابط بين النفس وما حولها في عالم الحس مع حوارية تشكل الذات مركزها..ليؤلف الشاعر بين التجربة الذاتية في استكشاف غاية الوجود، والتجربة الانسانية مع التعبير عن الازمة.. فضلا عن اعتماده النزعة التفسيرية التعليلية الواعية لكي ينسج العبارة الشعرية بعمق الرؤيا التي تخفف من وطأة الوصفية والسردية، اذ صوره مكتظة بالجزئيات والنعوت والظروف التي تشكل معنى، فضلا عن انه يختزل الوجود ويتتبع تفاصيله الوجدانية بمفردات الواقع الممزوج بالخيال لخلق صورة حركية مركزة مختزلة نابضة بالفعل الدينامي والتوهج الوجداني والتفاعل الحركي مع استثمار الاساليب البلاغية (الاستعارة والمجاز) لخلق عوالم تفهم من السياق والدلالات السايكولوجية والسوسيولوجية من اجل انتاج المعنى، بتوظيف اللفظة المموسقة الواعية التي يقرر فيها معنى الاشياء ويحكم عليها حكما نفسيا واقعيا ينم عن اجواء محدقة بشكل تأملي واع.
حين مات مختار القرية
خلف ولدين جميلين
الاول سين ممتلئا كان بحروف الخير
زرع بستانا للفقراء وثلاثة أبناء
أضاف الابن الاول للبستان نهرا
واضاف الثاني بيتا للغرباء
والثالث اغنية وقصائد
هذا عن سين
ماذا عن صاد؟
ممتلئا كان بحروف الحقد
زرع مأدبة للحرب وثلاثة ابناء
كان الابن الاول مجنونا كغراب ملعون
والثاني مخمورا ليل نهار
والثالث يصرخ الما في رأسه
حين يقرأ حرف الحاء او الباء /ص218
فالخطاب النصي ينم عن اشتغال فكري ورؤية ترقى من الذاتي الى الموضوعي، بسرد ينتمي الى المجال البصري ـ الواقعي ـ مع اعتماد بعض المهيمنات والتمظهرات التي تتجسد في البناء المعماري الذي يعتمد التكثيف والتركيز والاختزال مع اقتصاد في اللغة، اضافة الى ان الشاعر في نصه هذا لا يستغرق الحلم ولا تنعزل ذاته عن العالم الخارجي من خلال توظيفه الفاظا مليئة بالحركة والحرارة والصدق، خالية من امية الكلمات والابتذال، تحمل بين طياتها ثقافة واعية تتكئ على واقعية خلاقة بأسلوب فني ابداعي، يبحث عن جوهر الكلام من خلال الظواهر أي انه يربط ربطا جدليا بين الذات والموضوع بأسلوب سهل ممتنع يجرك بعد ان يشدك بقوة فتنحاز اليه، كونه يكتب بوجدان يستوعب الحياة ومن يتنفس عليها بصدق وبنفس شاعري متناغم، شفيف يدغدغ مشاعر متلقيه ويجعله جزء من النص القائم على الاضاءة المكتنزة فكريا ووجدانيا والمتكئة على ضوابط فنية وبنيوية معبرة عن لحظة شعورية مكثفة..خالقة لحقلها الدلالي لتحقيق زخما من التكثيف الدلالي والاسلوبي والفني المؤثر في ذهن المستهلك(المتلقي)..فضلا عن تحقيق عنصر الاضاءة السريعة للحظة المستفزة للذاكرة بما تحمله من معنى ايحائي يجرنا الى قول النفري الصوفي(كلما ضاقت العبارة اتسع المعنى)..
فالنص يختزل الوجود ويتتبع تفاصيله الوجدانية بمفردات الواقع الممزوج بالخيال لخلق صورة حركية مركزة مختزلة نابضة بالفعل الدينامي والتوهج الوجداني والتفاعل الحركي لخلق عوالم تفهم من السياق والدلالات السايكولوجية والسوسيولوجية من اجل انتاج المعنى.
الغراب علمني بحقده الاعمى سر الحب
علمني ان ارفع يدي عبر الغيم الى خالق الحاء
فيستجيب لدمعتي الحرّى
وان اضع يدي على قلبي
فتهبط الباء قصيدة حب صوفية الاسرار
عذبة كقطرة المطر /ص360
فالشاعر بوهج روحه يتنفس اجواء نصه ويسبح في فضاءاته الحالمة بنص رومانسي وبناء متماسك شفيف فيستثير العواطف ويشحذ الخيال بشكل فني خال من الانفعالات الواهمة جامعا بين الصور النفسية والخبرة العاطفية في تصوير العلاقات الاجتماعية….فيربط بين الخيال والوحدة العضوية بصدق وجداني حتى انه يبدو ظل يحاول اسر الدنيا..بنقل ما تعانيه نفسه نقلا مباشرا معتمدا الايقاع والغناء اللحني، الوسيلتين الاساسيتين لتجسيد التجربة الكلية التي يعتمدها الشعر، اذ انه يعي ان النشوة الفنية تهدف الى ادراك اقصى ما يدرك من الاشياء بنوع من المعرفة الايحائية او المعرفة غير المنفصلة عن النفس او المعرفة التي هي النفس ذاتها..لان غاية الشعر هي اداء المعرفة بنوع من الرؤيا والحدس كما يقال..فضلا عن ان نصوص الشاعر تلقي الضوء على اهم الظواهر التاريخية للعصر متكئا على الفنون الدرامية والتشكيلية ورموزها..
وهكذا نجد الشاعر قد سجل حضوره الواعي المنسجم مع تنامي المؤثرات النفسية والحسية والحضارية في مجمل تعبيراته النصية، كونه يرى ان الشعر الحقيقي هو الذي يولد وسط المعاناة فيعبر عن اصالة الشاعر الذي كان يعزف بعزف روحي في حالة من السمو والصفاء، ليؤكد ما جاء به (كروتشه)، ان العاطفة بدون الصورة عمياء والصورة دون عاطفة فارغة جوفاء.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة