دريد.. وربيعة !

إنني أفترض أن الأخبار التي رويت عن الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة لها نصيب كبير من الصحة، وأن ما نقل عنه من أشعار حقيقة لا لبس فيها. فالتعامل مع الحقائق شئ، ومع الأساطير شئ آخر.
وإنني أفترض كذلك أن دريداً هذا حينما قتل وهو مضطجع في محفته، غير بعيد عن أرض المعركة، كان قد قارب المئة والستين، وأن بصره كف، وبات عاجزاً عن الحركة، وإن لم يكن عاجزاً عن التفكير وإبداء المشورة.
هذه الروايات عني بها المؤرخون المسلمون بشئ من الرضا، رغم أن الرجل قتل وهو على دين الوثنية. ولم يمنعهم ذلك من الاحتفاء به، على خلاف اللغة التي كانوا يتعاملون بها مع قتلى المشركين.
كان دريد هذا فارساً معدوداً في الجاهلية، فلما أدرك الإسلام أبى أن يسلم وقومه على دين الأجداد. ربما وجد أن رجلاً جاوز المئة لم يعد قادراً على تغيير نمط حياته. فلما عزمت هوازن على تدمير القوة الصاعدة، وجمعت لذلك كل ما لديها من حلفاء. خف إليها المسلمون بعد فتح مكة بجيش لجب. فكان بينهم ألفان من الذين أسلموا بعد الفتح. وهناك من تطوع للقتال من غير المسلمين. ولا عجب فقد كان الموت مع قريش أحب إلى البعض من الحياة مع هوازن.
وهكذا جئ بسيد بني جشم، دريد بن الصمة، مع آلاف من النساء والأطفال والأموال. فسأل قائد هوازن مالك بن عوف عن الأمر، فقال أنه ساقهم حتى يقاتل عنهم الجيش. فقال له دريد راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شئ؟ قال لقد كبرت وكبر عقلك!
في البدء دارت الدائرة على المسلمين، ووقعوا في كمين محكم. ففر من فر وشمت من شمت، ولم يخف أبو سفيان جذله بما حدث، وقال لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. لكن قريش الجديدة استعادت وعيها وهزمت هوازن. وحينما قصد شاب محفة دريد يريد قتله سأله من أنت: قال أنا ربيعة بن رفيع السلمي. فقال له أخبر أمك أنك قتلت دريداً. فلما أخبرها قالت له: أما والله لقد أعتق لك أمهات ثلاثاً.
دريد بن الصمة الذي خطب الخنساء بعد أن جاوز عمره القرن، مات قتيلاً، وهو ضرير وواهن وضعيف. لم يكن خارجاً للقتال لأن سنوات عمره الطويلة أقعدته عن الطعان. لكن هذا الشاب الغر الذي دفعته جاهليته لقتله، منحه الميتة التي كان يسعى إليها منذ أن كان شاباً دون العشرين. ولو كان يعلم كم أخطأ في فعلته هذا لما تردد أن يشيح بوجهه عنه، ويبحث عن الغنيمة في مكان آخر.
لكن ما هو جدير بالدهشة أن أحداً من المسلمين لم يشمت به، أو يجرؤ على الإساءة إليه. فرويت أشعاره، وطارت أخباره. وكان ذلك دليلاً على أن السلوك المتوازن لم يغب عن العرب منذ تلك اللحظة، التي شعروا فيها أنهم رسل التغيير إلى العالم.

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة