دراسة شاركت في الدورة السادسة لمهرجان الكميت
علوان السلمان
لقد امتلكت القصة القصيرة ارثا قصصيا منذ ثلاثينيات القرن العشرين كاشفا عن الحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي باسلوب حكائي وواقعية مفرطة تفتقر لمقومات السرد وتقنياته وآلياته الفنية.
وما ان حل العقد الستيني وهو معبأ بمعطيات حداثية وترجمية وانفتاح على الفضاءات الخارجية وجسامة الاحداث المرافقة لسنينه التي شكلت حافزا ودافعا لدى القصاصين لتجاوز المألوف وتأسيس خطاب قصصي ينطلق من اعتماد تقنيات فنية واساليب سردية مستفزة لذاكرة المستهلك(المتلقي) ونابشة لخزانته الفكرية لاستنطاق عوالمه..فضلا عن استيعابها للتحولات الاجتماعية والسياسية وتقديم ما هو معرفي وجمالي يتناسب والوعي المجتمعي..لذا كانت القصة القصيرة منسجمة مع خطاب الواقع وتلبيتها للحاجات النفسية والسياسية للمستهلك(المتلقي) الذي هو بحاجة الى خطاب ثقافي يتماهى ومنطق العصر والغوص في اعماق الظواهر الفاعلة في الحراك الاجتماعي من خلال الرمز والاساليب البلاغية(المجاز والاستعارة ..)..
لكن المفارقة الكبرى حدثت ما بعد حركة التغيير النيساني2003..اذ شهدت حركة القص القصير تراجعا ملفتا للنظر مقابل تسييد الظاهرة الروائية..لما تمتلكه من مساحة تتناسب وحجم حراك خطاب الواقع..واستجابتها لحركة ايقاعه ومعطياته بحكم امتلاكها امكانيات بنائية لاستيعاب متغيرات المرحلة الحياتية..كما نرى..
ومع ذلك ظل حضور القص القصير فعلا ثقافيا مؤثرا باقتناص وتسجيل الاحداث الجزئية التي تستفز المستهلك(المتلقي) وتحرك خزانته الفكرية وتجره للتفاعل مع خطاب الواقع من اجل انتشالها من سكونها بتوظيف تقنيات حداثية متساوقة والغرائبية اليومية ومستجيبة لخطابه المكتنز بمعطياته..ومن ثم التعبير عن الواقع المتداخل مع الخيال لتشكيل موقف مؤطر باطار الحياة بصورة ايحائية محققة لوظيفتها الجمالية بتفجير اللغة من خلال الوعي لوظيفتها..كون العملية الابداعية باختلاف اشكالها وتباين مضامينها هي عملية فنية تسجل انسانية المنتج(المبدع) المنبثقة من خياله ورؤاه الفكرية التي تكشف عما يمتلكه من خزين معرفي يوظفه من اجل اداء رسالته الانسانية..لذا قيل(ان تكتب تعبيرا عن نفسك بصدق فهذا شيء عظيم..اما ان تكتب عن الناس بصدق فهذه هي العظمة بعينها..)..لانه يكشف عن ادق الدلالات النفسية والعلاقات الاجتماعية ويمنحها لمستهلكها بنسيج فني مستلهما للوقائع والاحداث التي يقتنصها فيستنطقها ويخرجها من دائرة الحدث الطبيعية الى عوالم شمولية انسانية باعتماد التكنيك الفني المحرك للذاكرة ما بين(الزمان والمكان بكل اشكاله (المغلق/المفتوح/العتبة…) وحركة الشخوص والحوار بشقيه الذاتي(الداخلي)والموضوعي (الخارجي).. للكشف عما يدور بدواخلها لتحقيق وظيفة جمالية بتحريك الواقع وتفجيره ..
و(تراتيل..العكاز الاخير) النص القصصي الذي احتضنته المجموعة القصصية التي جعلت منه مرتكزها العنواني ونسجت عوالمها انامل القاص والروائي محمد علوان جبر واسهمت دار ومكتبة عدنان على نشرها وانتشارها/2015..كونها تتجاوز المالوف وتتوغل في المعنى بتركيزها على الهم الاجتماعي كمحرك فاعل ومؤثر في الواقع الاجتماعي داخل بنية النص والذي يحدد الوعي الاجتماعي..ابتداء من العنوان المستل من احد نصوصها والمحلق في عوالم الحلم المعبرة عن سيميائية تمارس التدليل وتحقق وظيفة(وصفية ودلالية واغرائية وتعيينية)عبر مقطعه النصي المركب من ثلاث فونيمات شكلت لحظة التضاد بصريا ودلاليا ومنحت النص هويته التي تسهم في استقراء بنياته وتحديد مقاصده..
(دون ان انتظر الصباح..لاني قررت سيدتي ان اعيد اليك طرف زوجك.. بعد ان انهى كلامه ساد بيننا سكون لم يقطعه سوى صوت تنفسه..احسست انه يتنفس بعمق وسرعة..وقبل ان يواصل الكلام قاطعته بلهجة هي مزيج من القسوة والحنان..لهجة آمرة فيها الكثير من الود الذي دهمني وانا اشم الرائحة الغريبة تهيمن على حواسي مرة اخرى.. وما الضير في ان يقودك الطرف كل يوم الى بيتي؟نهضت من مكاني وانا اساعده على ارتداء الطرف..ترك العكاز في مكان جلوسه..ولا أعلم هل سمعني وانا اعيد عليه عبارتي..
(ما الضير في ان يقودك الطرف الى بيتي كل يوم)..
لانه سرعان ما فتح الباب واختفى في الظلام /ص28..
فالقاص يثري نصه بتنويع الضمائر وهو يتنقل من (ضمير المتكلم الى ضمير الغائب والمخاطب..)عبر جدلية الالتفات السردي وقوة الانتقال وتغير المنظورات..لذا فالمشهد السردي عنده يتشكل من خلال تداعي الزمن في الذاكرة التي تستدعي الماضي وتستحضر قيمه ورؤاه واحداثه حتى يصير بؤرة النص ومرتكزه الذي يبدأ من مستوى الوعي ويغوص داخل مستوى اللاوعي ليكشف عن الوهم الذي يتحرك والواقع التاريخي فيسجل تفاصيل الحياة ويتعامل مع العادي لينسج همه..وعلى الرغم من ذلك فانه لا يتجرد من دفئه ولحظته المشبعة برائحة الحياة من اجل الكشف عن الانموذج الانساني المنبثق من واقع التشظي كوحدة متكاملة في العمل الفني..
ـ النص يكشف عن مجموعة من التداعيات التي تتوظف بقصدية لتعطي بعض التفسيرات المتسلطة على ذهنه حتى ان النص يصبح قطعة من حياة متحركة لا تعرف السكون بمشاهدها التي تكشف عن وعي سردي يعتمد التكثيف والاختزال في الشخصيات والاحداث والزمكانية وهو يدور حول حدث ينو ويتصاعد ويتناسل الى عدة احداث بسرعة في اتجاه واحد ضمن حبكة مركزة توفر الفكرة في تتابع جمالي مطرد وهي مكتنزة بالشعرية الممتدة على جسدها كي تحقق الحالة الشعورية..
فالنص يعتمد الجملة السردية البسيطة في وظائفها الحكائية والمتميزة بخاصية الحركة وسمة التوتر الناتج عن تغلب الجملة الفعلية وانتشارها بين ثنايا السرد وبداياته..فضلا عن انه يمتاز بدقة التشخيص وتوظيف الرمز الدال بلغة موحية مكتنزة بحيوية افعالها ومجازية صورها وقوة تراكيبها المكتظة بالاستعارات والتشبيهات والكنايات.. فهو يوظف الفعل المضارع للدلالة على استمرارية الحدث…واستدعاء الماضي للكشف عن جذور الازمة وخلق صور مكتنزة مفعمة بالتوتر الدرامي والدينامية السردية القائمة على صراع التضادات واعتماد بنية شكلية لخطابه بتوافر الشخصية والحدث والزمكانية مع ارتكاز على التكثيف الذي يحدد بنية النص وفاعليته المؤثرة باسلوب يعتمد الاقتضاب ويتجنب الوصف الاستطرادي مع التجاوز الى ما هو مجازي..اضافة الى انه يوظف عنصر الاستقراء منطلقا من الجزء الى الكل كي يباغت المستهلك(المتلقي)..
وبذلك كانت (تراتيل العكاز الاخير) تجربة تنطوي على هواجس معبرة عن مكنونات الحدث ومستجيبة لمعطيات الواقع باستقرائها نبض الحياة وتفجيره دلالة وايحاء..فضلا عن انسنته المجرد من الجماد وتحويله الى قناع رمزي قائم على التشخيص الاستعاري والمفارقة الموحية التي تحمل بين طياتها السردية دلالات انسانية تسهم في تحقيق فكرة معمقة من جهة وتحريك الذاكرة لتحقيق المنفعة والمتعة من جهة اخرى..
(سيدتي انا ادير مقهى صغيرا هناك..واشار ناحية مكان ما ..مقهى صغيرا تحت ظلال شجرة سدر عملاقة..تماما تحت اليافطة التي كانت تحمل اسم المكان الذي كنا نستلم منه اطرافنا الاصطناعية..نكوم السيقان والاذرع الصناعية تحت الشجرة..نعرضها تحت الضوء..نجلس حولها نحدثها وتحدثنا..ربما كان بعضنا يسمع البعض الاخر..اقول ربما..لاتستغربي ولا تقولي انني مجنون..) /ص23..