حين تكون اللغة علاجا فيلم البروفيسور والرجل المجنون

د. هيام عريعر

  كتب ميشيل فوكوه مرّة «إن الكلمات لا تشكل قشرة الفكر الخارجية، إنما هي تستدعيه وتشير إليه نحو الداخل، فهي قريبة أكثر مما نظن من الفكر المكلفة بإظهاره، لكنها ليست موازية له، إنما محبوكة في النسيج الذي يشكله، إنها الفكر نفسه»،  بهذا المبدأ العميق يربط فوكوه بين اللغة والعقل، على عادة كثير ممن تناولوا الجنون في تلك الحقبة أمثال ( فرويد و لا كان )، وهو المبدأ الذي قامت عليه حبكة الفيلم ( the professor and the madman )، حيث جرت مقارنة عبقرية بين الإنسان وبين اللغة، فكلاهما كائن اجتماعي، يتطور وينمو وينفلت من قيد التدجين والتقنين وإحصاء الأخطاء وتطبيق القواعد الصارمة ، التي يراد حبسهما فيها أو فهمهما من خلالها، وكلاهما يجسد انفعالات ( الفرح والحزن والغضب والجنون )، وكلاهما لا يعني تاريخهما شيئا من دون المعنى الذي يحققانه.

تلك المقاربة ما كان لها أن تكون من دون خلق شخصيتين متباينتين، تنتميان لعالمين مختلفين، الأول (جيمس إيه إتش موري) عالم اللغويات، الذي يصف نفسه بأنه ابن بائع أقمشة، ذاتي التعليم، لم يجد فرصته في نيل شهادة جامعية، إذ انشغل بكسب قوته. لكنه ومن جهة أخرى كان موسوعة معرفية، يتكلم بقرابة 25 لغة، يهتم بها وبتطورها، أوكلت إليه مهمة وضع قاموس انكليزي بناءً على المبادئ التاريخية، من قبل لجنة في جامعة أكسفورد في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، كان بعض أعضاء هذه اللجنة يناوئونه لعلمة، ويتندرون من سماع لكنته الأسكتلندية الجارحة للأذن -على حد زعمهم – تلك اللكنة التي ما كان ليتنازل عنها أبدا، لأنها تمثل هويته المتحررة من اشتراطات المجتمعات النظامية الصارمة.

أما الرجل الآخر فهو الجراح المتقاعد (ويليام تشيستر ماينور)، ذو ال 48 عاما، النقيب السابق في الجيش الأمريكي، وقد جاء إلى لندن هربا من أوهامه، في أن رجالا يطاردونه بلا هوادة، ويحاولون قتله وتعذيبه. وقد دفعته تلك الهلاوس في العام 1872إلى قتل رجل يُدعى (جورج ميرث)، ظن خطأ أنه أحد مطارديه المزعومين، ويقصد به الجندي (ديكلان رايلي)، الذي هرب من الجيش فكان عقابه أن وسمه ويليام بحديدة على خده الأيمن، في منظر لا يبارح مخيلة الأخير أبدا، فاستحق بارتكابه القتل عقوبة السجن، لكنه السجن في مستشفى (برودمور) الخاص بالمجرمين المجانين، تحت الرقم 742.

خطان متصاعدان في السرد الفيلمي؛ أحدهما يقصد إلى جمع اللغة التي تتطور أسرع من تطورنا، فتدخلها الاشتقاقات والكلمات الدخيلة والمعاني البديلة. وآخر يقصد إلى رصد السلوك الإنساني الرفيع، وكيف يتراجع بنسبة كبيرة، مبتعدا عن عقله الراجح، الذي من دونه نكون مجرد صور أو وحوش. حتى يبدو الجرّاح الذي ينقذ أرواح الناس من الموت، قلقا مذعورا لا ينام، يبصق عشرات المرات وينتف شعر أنفه حتى لا تعلق به أبخرة الشيطان.

هذان الخطان المتباينان يلتقيان في نقطة واحدة، حين يحتاج البروفسور إلى متطوعين يساعدونه في جمع الكلمات الدّالة للقاموس، فيكون الجراح المجنون أقربهم منها، أو أحوجهم لها.

 فقد كان مؤمنا أن الكتب هي التي سوف تجعله بخير. وهذا الهمس الذي صدر على لسان (ويليام المجنون)، الذي جسد شخصيته الممثل الأوسكار (شون بن)، هو التحقق الأمثل لنظرية (جاك لا كان) في (الواقعي، الخيالي، الرمزي). فالواقعي مرحلة ما قبل اللغة، حين لا يشعر الإنسان بالنقص وقت كان طفلا مرتبطا بأمه، فهو وقت إشباع لا فقد فيه. أما الخيالي فهو مرحلة المرآة (من 6 إلى 18 شهرا)، وفيه يتعرف الطفل على نفسه في المرآة، فيدرك تمايزه عن الآخر، لكنه يظل غير قادر على تحديد ذاته وهويته، وهي ذات لا تعاني الفقد أيضا، لأنها تطلب الاكتمال من الآخرين، من خلال الصور أو من خلال انعكاسها في المرآة، أو على حد قول (لا كان) نفسه: إننا في هذه المرحلة نمارس الفقد لكي ندخل في الحضارة، لكننا نعود ونحمي أنفسنا من خلال تماهينا مع الآخرين. وتلك المرحلة قبع فيها البروفيسور، بتماهيه مع زوجته الصارمة الثابتة غير القابلة للتغيير، التي حاولت أن تكون مالم يكنه، حتى يشكلان كلا واحدا (ملكة ومهرجا).

لم يخرج البروفسور من طور الخيالي -رغم علمه التلقيني باللغة إلا حين تعرّف على المجنون، الذي جرّه إلى العالم الرمزي، حيث اللغة هي التي تجعلنا نتغلب على فكرة الغياب والفقد ونألفها. إذ إن عناصر اللاوعي جميعها يتمّ التعبير عنها بالدوال (الألفاظ)، وهذا التعبير هو الرمزي وهو بنية اللغة نفسها، ومن يمتلك زمام اللغة فإنه يمتلك ذاته العاقلة.

هنا بدأت رحلة ويليام في استعادة ذاته وطرد هلوسة، فبمجرد أن بدأ بجرد الكلمات، أنزل من على جدار غرفته بالسجن كل اللوحات السوداوية التي رسمها وقت مرضه، ثم ملأ زنزانته بالكلمات آلاف الجذاذات على الأرض والجدران، احتاج للكثير من الورق والمظاريف لتصنيفها، 10000 آلاف ورقة من الاقتباسات، التي لم يتمكن البروفيسور ومساعدوه من فعلها بضعف المدة. كان ويليام في هذه اللحظة يغادر مرضه باللغة وحدها، إذ كانت المفردات قاموس نفسه الهائمة، والورق والحبر بمثابة اللحم والدم، فاللغة كما يرى فوكو: لا تستطيع أن تمثل الفكر دفعة واحدة، في كليته، وإنما أن تنظمه جزءا فجزئا، حسب نظام خطوط منتظمة، فاللغة هي تحليل الفكر …ليس مجرد تقسيم، وإنما هي تأسيس عميق للنظام في الحيز.

لقد وجد ويليام نفسه للمرة الأولى هنا، في الألفاظ وحدها، في الفردوس المفقود لملتن، وفي آمال كبيرة لتشارلز ديكنز، وفي الكتاب المقدس الذي كان يفهمه بطريقته الخاصة جدا، على الرغم من اتهام الناس له بأنه مجهول الديانة.

لكن رحلة العلاج العظيمة تلك لم يكتب لها الاستمرار، فقد تعرض للنكوص، حين عنّفته (كلير) ابنة القتيل بالضرب، بعد إذ وجدت أن علاقة ما بدأت تنشأ بينه وبين أمها الأرملة، التي تكفّلها ويليام وأوصى بأمواله لها، تعويضا عن قتله لزوجها، وأكثر من ذلك حين علمها القراءة.

 صفعة كلير المراهقة جعلته يعود أدراجه في عمق المرض مرة أخرى، تطارده خيالات الجندي والقتيل ووجه كلير، مرتعدا مرتجفا، لا يمكنه أن يمسك القلم ويدون الألفاظ، صارخا بأعلى صوته ماذا فعلتِ؟ وهنا يعود ويليام مرة أخرى إلى مرحلة المرآة، منكرا ذاته شاعرا بالذنب، أنه أحب زوجة القتيل، وأنه علمها الكلمات وقرأ لها الكتب، مؤمنا أنه بذلك قتل زوجها للمرة الثانية. من أجل هذا كان عليه أن يسدد الضربة لنفسه بالفقد، أو بإدمان الفقد، أو فقد المفقود، فقبول الأذى هو البدل والتراضي والتعويض في مفردة (أسثمنت assythment) التي طلب من البروفيسور موري البحث عن معناها، إنها التضحية بجزء من الذات من أجل إيجاد الذات. ما دفعه إلى قطع عضوه الذكري، ذلك بأن آلية بناء الوهم الحامي تكمن في القبول بخسارة واقعية لشيء ما من الجسد، لقتل الرغبة. واختيار القضيب هنا ليس اعتباطا، لأن القضيب عند (لا كان) هو المركز، فالذات إنما تتحدد بوجود الآخر، وهذا الآخر هو الأب، والأب هو القضيب، الذي يدعم الطبيعة البطريركية للنظام الرمزي، وهو بقطعه يبقي رغبته غير متحققة، فردوسا مفقودا، وهذا هو السبب الذي جعل أبطال الفيلم يبحثون عن أغلب المفردات الضائعة عند ملتن في فردوسه غير المتحقق.

لقد كان ويليام يبحث عن الغفران، عن تكفير خطيئته الأولى (وسم الجندي)، لكن الظروف دفعته إلى أن يعززها بثانية (القتل) وثالثة (الرغبة) وهكذا وما ذاك إلا لأن المجتمع بعاداته المتشنجة لا يعرف معنى الكلمات ولا يعرف معنى الله، ولو أنهم قبلوا بكلمة (آسف) التي قالها أول الفيلم، حين أدرك خطيئته، كما قبلها مساعدو البروفيسور من بعضهما، لكانت الأمور بخير ، فالله أبسط مما نتصور، وقوانين الأرض لا تمثله أبدا إنما تمثله الكلمات، والكلمات هي ذاتها العقل ولا فاصل بين العقل وربه: (الدماغ أوسع من السماء، إن وضع أحدهما قرب الآخر، أحدهما سيتضمن الآخر بسهولة.. الدماغ بوزن الرب، إن وزنيهما رطل مقابل رطل، وسيختلفان إن اختلفا فسيكون الاختلاف كمقطع الكلمة، من صوت لفظها).

*الفيلم للمخرج الإيراني الأمريكي ب. شمران للمخرج، بطولة شين بيت بدور الطبيب المجنون، وميل غيبسون بدور البروفيسور.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة