الموصل والحرية

مساء الاثنين 10/ تموز من العام 2017 أعلن السيد حيدر العبادي القائد العام للقوات المسلحة (بيان النصر) معلناً تحرير مدينة الموصل من براثن أكثر العصابات إرهاباً وإجراماً وانحطاطاً في تأريخ المنطقة والعالم (داعش) بعد أن ظلت ثاني المدن العراقية بعد العاصمة بغداد، لمدة ثلاث سنوات وعدة أسابيع تحت سيطرة ذلك التنظيم الظلامي البغيض. مغزى هذا الانتصار الذي تحقق بعد تضحيات هائلة قدمها أبطال العراق وأحراره من شتى المؤسسات العسكرية والأمنية والشعبية، يتجلى بإرادة الحياة وقيم الحرية والخير التي تمسك بها سكان هذا الوطن العريق بحضارته وقيمه الإنسانية المتجذرة، والتي لقنت اليوم خفافيش الظلام درساً لن ينسوه أبداً. وهذا ما اعترف به المجتمع الدولي وأحرار العالم جميعاً، إذ عكست ردود الأفعال الأممية، النظرة الجديدة لعراق استرد هيبته ومكانته بين الدول، بعد أن أهدرتها التطورات والأحداث السابقة (عشية ظهور داعش وسقوط أكثر من ثلث الأراضي العراقية بيد تلك العصابات الإجرامية) وهذا ما يجب تعزيزه عبر اتخاذ المزيد من السياسات المسؤولة والمتوازنة والحكيمة، والتي تأخذ بنظر الاعتبار المصالح العليا للعراقيين جميعاً من دون تمييز على أساس “الهويات القاتلة”.
ما جرى في تلك المدينة من استباحات تخجل منها أكثر الحيوانات وحشية وضراوة، يجب التوقف عندها ومعالجتها بشجاعة ووعي عميق، فالنتائج العسكرية من دون معالجات سياسية واجتماعية وفكرية، ستتحول لا محالة الى عتبة لطور آخر من النزاعات والحرائق، علينا تشخيص المناخات والثقافة والممارسات التي احتضنت عقيدة داعش وعصابات التخلف والإجرام، أي الثقافة والسلوك الشوفيني والتعصب الديني واحتقار الآخر المختلف، وتجلياته كثيرة قبل 10/ حزيران من العام 2014. لقد كشفت المعطيات والأرقام والتقارير المحلية والدولية عن حقيقة المنتسبين لداعش وغالبيتهم المطلقة هم من سكان مدينة الموصل والمدن والمناطق التي سقطت بيدها أسرع من لمح البصر، وهم اليوم قد ذابوا بأسرع من ذلك بين صفوف النازحين والمتسللين بعد هزيمتهم العسكرية. مثل هذه التطورات والأحداث المعقدة، تحتاج الى إدارة حازمة وواعية لما يجري، إدارة تدرك عواقب السياسات الانفعالية وضيقة الأفق التي اتبعت سابقاً، حيث الكيل بمكيالين وبغطرسة خاوية مع مثل هذه الملفات المعقدة في المراحل الانتقالية لحياة الشعوب والأمم ولا سيما منها ملف (المصالحة الوطنية) والذي تلقفه سابقاً شخصيات وجماعات مثقلة بضيق الأفق الطائفي والآيديولوجي والمناطقي، مما اضطرنا لدفع المزيد من الفواتير القاسية بشرياً ومادياً والذي مثلت ذروته نكسة حزيران العراقية.
إن الإصرار على اقتفاء أثر شعار الدمار الشامل (عفا الله عما سلف) والسماح للقوى والمصالح والعقائد والشخصيات التي شرعت الأبواب لكل هذه الكوارث المتواصلة منذ “التغيير”؛ يعني الاستعداد لجولات جديدة لن تقل فتكاً عما كابدناه حتى هذه اللحظة. هذه المآسي ولدت من تظافر قوى ومصالح ميزتها ضيق الأفق والتخلف والتشرذم، وضعت من لحظة زوال النظام المباد غاياتها الفئوية المنحطة على رأس أولوياتها، فأوجدت لنا كل هذا الانحطاط. هذه القوى من شتى الرطانات والأزياء ستعيد إنتاج مثل هذه الفصول الكارثية، إن لم تظهر إرادة وقوة تبسط سلطة الدولة والقانون بحق كل من أجرم أو اعتدى على حقوق العراقيين بالأمس واليوم، وبغض النظر عن العناوين والمسميات التي يتمترس بها، وهي بالأساس وظيفة القضاء “الغائبة” والتي من دونها يصبح الحديث عن حرية الموصل والعراق الجديد “حديث خرافة”.
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة