وزير الداخلية الايطالي متايو سلفيني المثير للجدل يامر برفع حماية الدولة الايطالية عن روائي مرصود بالقتل من عصابات المافيا

السلطة وحماية المثقف

رومـــا: موسى الخميسي

بلغت مواقف وزير الداخلية الايطالية ماتيو سالفيني، المثير للجدل في كل مكان ، ذروة تطرفها عندما تعلق الأمر برفع الحماية عن الروائي الصحفي الإيطالي روبرتو سافيانو، من مواليد نابولي 1979 الذي تخرج من كلية الفلسفة، من إحدى جامعات نابولي ، الذي استطاع اختراق الخطوط الحمراء لهذا العالم وفضح ما لم يتجرأ أحد على كشفه من قبل عبر نشر حقائق سرية وتفاصيل دقيقة وحرجة متجاوزاً الخوف، ومتصدياً لإجرام المافيا الإيطالية عبر توجيه الاتهامات التي تدينها مشفوعة بالأدلة الثابتة دون مبالاة بالعواقب التي قد تصيبه، وذلك من خلال كتابه الاستقصائي الشهير « كومورا» الذي يجمع ما بين الكتابة الصحفية التوثيقية والرواية، بالتركيز على حياة الهامشيين، وتمت ترجمته الى 42 لغة عالمية.
فقد اعلن وزير الداخلية ماتيو سالفيني، الذي دار سجال عنيف بينه وبين الكاتب، حيث اتهمه بتبيض اموال المافيا، ومحاباته لواحد من اصدقائه الذي يشغل رئاسة بلدية مدينة في الجنوب الايطالي متهم بمساعدة المهاجرين والدفاع عن وجودهم، وتسهيل منحهم اقامات المواطنة والعمل. حيث امر الوزيربسحب رجال الحماية ومخصصات الحماية التي تتحملها الدولة الايطالية. وهذا الاجراء الذي احتجت عليه كل القوى والمؤسسات الثقافية في البلاد، بانه تغيّيب قسري تقوم به الحكومة الايطالية، التي تعمل بالضد من ارادة المثقف، واعتبروه بمثابة اجراء يهدف الى تهميش لدور المثقف، ووجود ارتباك حضاري، يعكس واقع غير متجانس سياسيا وغير متجانس اجتماعيا، يؤدي الى اهتزاز صورة المثقف الايطالي في وسطه بسبب عدم حمايته وابعاده قسرا منفردا وعاريا، لجعله يشعر بعدم جدواه. ووصفت الامانة العامة للصحفيين الايطاليين هذا الاجراء « بانه دعوة الى محاصرة العقل المثقف والفكر الناقد» .
ويذكر بان سافيانو الذي لايزال الى يومنا هذا ومنذ عشر سنوات يعيش متخفياً ومتنقلاً بالسر تحت حماية مجموعة من رجال الأمن الإيطاليين، بعد ان هدده زعماء هذه العصابة الإجرامية بالانتقام عاجلاً أم آجلاً . وقد اصدر مجموعة حملة جائزة نوبل للسلام ومنظمات ومؤسسات محلية وعالمية مذكرات تضامن واستنكار الى السلطات الإيطالية من اجل حماية هذا الكاتب، بعد ان اعترف أحد التائبين من أفراد العصابة بوجود مخطط لتصفيته وبأي ثمن.
وزير الداخلية ، وهو في الوقت نفسه زعيم حزب «الرابطة الشمالية» الذي بدأ في إيطاليا بتنفيذ برنامج حكومي أثار حفيظة الشركاء الأوروبيين واستدعى سيلاً من التحذيرات في بروكسل (العاصمة الأوروبية)، يعرف أيضاً كيف ينحني أمام العواصف التي يثيرها كل يوم، ويطمئن المتوجّسين من هذه التجربة الأولى في الاتحاد الأوروبي التي صعد فيها المتطرفون والشعبويّون إلى سدة الحكم على أنقاض الأحزاب التقليدية المتهاوية. وتتراجع حدة خطاباته اليومية، مع الاهتزازات المتتالية في أسواق المال القلقة من التكاليف الباهظة لبنود البرنامج الاقتصادي التي قد تُغرق منطقة اليورو في أزمة جديدة، ويتعهد التزام الواقعية عند الإقدام على الخطوات العملية.
سرد الوقائع التي اكتشفها الصحفي روبرتو سفيانو أثناء تحقيقاته حول “الكامورا” التي هي احد اهم التنظيمات المافيوية الإيطالية التي تنشر سمومها في محافظة كامبانا وعاصمتها الاقليمية مدينة نابولي؛ اذ تعتبر «الكامورا” من أكبر المنظمات السرية إجراماً في أوروبا . والرواية هي رحلة مرعبة في تاريخ واحدة من عصابات الإجرام المنظم وتاريخها المليء بالتفاصيل اللانهائية عن الأشخاص والوقائع، وهي على صخبها كأختها عصابة المافيا المنتشرة في جزيرة صقلية، كتومة وغير ناطقة، إلا أن هذا العمل الروائي الاشبه بالتوثيقي جاء ليكشف بصوت عال ومفضوح عن واحدة من امبراطوريات الرعب والقتل والمال في شبه الجزيرة الإيطالية . وقد تغلغل مؤلف الكتاب « سافيانو» في بنيان هذا التنظيم الإجرامي العالمي الذي يمتلك سلسلة أعمال غير شرعية تسيطر على اقتصاد العالم و فضح ما لم يتجرأ أحد على كشفه من قبل وقدم الأدلة التي تدين المافيا مشفوعة بالأدلة الثابتة، دون مبالاة بالعواقب التي قد تصيبه. لأنه تجرأ على فضح أعمالها وعلاقاتها وارتباطاتها وزعماءها الحاليين بالأسماء وبالأرقام والعناوين، وفضح وبجرأة كبيرة عالم الأعمال الخاص بها، بعد ان قام بنشر هذا الكتاب الذي تجاوزت مبيعاته اكثر من مليونين نسخة في عموم البلاد، فهو يجمع العديد من الوثائق والمعلومات والأسماء والأماكن والأسرار في هذا الشأن، لأن الكاتب نفسه عاش زمناً بين صفوفها بعد أن ولد وترعرع في الأحياء التي تهيمن عليها وتسيّر من خلال بيوتها وأزقتها الضيقة، أعمالها وعلاقاتها.
تدور أحداث رواية « كومورا» في ضاحية»سكانبيا» الشعبية التي تطل على مدينة نابولي، والتي بنيت للعوائل الفقيرة في بداية السبعينات من القرن الماضي، ليستعرض للقارىء صورة قريبة لعائلات هذه العصابات التي تتوافر لديها مبالغ طائلة من الأموال»غير الشرعية» وهي تحاول «تنظيفها» باستثمارها في النشاطات الشرعية حيث يرافق التوسع في سوق المخدرات، ثراء فاحش ، وهؤلاء الناس في هذه المجمعات السكنية الكبيرة، ما زالوا يدورون في العجلة التي يشرف عليها زعماء العصابة، غير آبهين بالنتائج. فعصابة «الكامورا» في رأيهم قادرة على حماية من ينصاع لهم والى مصالحهم دون اعتراض أو انتقاد، سواء تحت الضغط والخوف من انتقام الزعماء أو باقتناع وبدافع اتفاق المصالح. انهم في كل زاوية من زوايا هذه المقاطعة الجنوبية «كمبانيا» التي تعيش الفاقة والفقر وتملأ شوارع مدنها تلال من النفايات، ويقتل بمعدل ثلاثة أشخاص يومياً، ضحايا الجريمة المنظمة، مستعدون على الدوام بتقديم الفرش النظيفة والوجبات الساخنة والكثير من الاحترام لكل زعيم من زعماء هذه العصابات وهو يدخل أحد البيوت. فالواجب يقضي باستضافة هؤلاء ولا يسع أحد من الأفراد ان يحرز من كان ذلك الشخص الذي كان عليه واجب استقباله، بل المهم هو إبداء الولاء. أما من يحاول الانفراد بعمله الإجرامي بعيداً من إرادة الزعماء وبعيداً من تنظيماتها ومهماتها، فمصيره التصفية الجسدية. وفي مجتمعات كهذه تعيش في ظل مؤسسات رسمية عاجزة عن إيجاد حل لمشكلة الرغيف، لا يستطيع المواطن ان يتفاءل بمستقبل مغاير غير الذي ترسمه عصابات الجريمة المنظمة، ويكون الأطفال أول ضحايا هذه القاعدة المأسوية، التي تخلف وراءها جيلاً من الأطفال والصبيان الذين لم يكملوا عاماً دراسياً واحداً والذين، ان لم يهاجر السواد الأعظم منهم، تحولوا الى ممارسة مهنة الجريمة، بعد ان وجدوا أنفسهم عاطلين من العمل..
وبالإضافة إلى الجوائز العديدة التي حصدها الكتاب والمراكز المتقدمة في لائحة الكتب الأكثر مبيعاً في 42 دولة ترجمت هذا الكتاب فقد حصد مؤلفه أيضاً تهديدات بالقتل من قبل مافيا “الكامورا” حيث توعدت بالقضاء عليه أثناء احتفالات أعياد الميلاد عام 2008 مما اضطر وزير الداخلية انذاك إلى وضعه تحت حراسة مشددة إلا أنه لم يستطع تحمل الوضع وقرر مغادرة إيطاليا.
وقد تحولت هذه الرواية الى فيلم سينمائي تحت اسم «كومورا»امتداداً نزيهاً وواضحاً للسينما البديلة. فهو بجمالياته الجديدة، وبوسائل التنفيذ التي استحدثها والتي جعلته أقرب الى الفيلم التسجيلي والوثائقي أكثر مما هو فيلم روائي، أعاد السينما الى وظيفتها الحقيقية. فالسينما عندما ولدت، لم تكن أداة لتصوير نجوم المجتمع، ولم تكن بديلاً للكابريه، ولم تكن متنفساً للحاجة الى الحركة واستعراض سادية الحكام والعصابات ورجال البوليس، كما أنها ليست فقط سينما البدعة أو عملاً منافياً للأخلاق، بل ان لهذه السينما البديلة تاريخاً لا يقل أهمية عن تاريخ السينما التقليدية.
انجز الفيلم للسينما المخرج الإيطالي «ماتيو كارونه 40 سنة» عن كتاب بنفس الاسم «كومورا… رحلة في الإمبراطورية الاقتصادية وحلم سلطنة الكامورا»، يقوم على سيناريو كتبه ماوريتسيو باروجي، حيث اختار ست قصص متداخلة من سياق الكتاب، لتقديم فكرة متكاملة عن المجتمع الذي تعمل من داخله الجريمة المنظمة.
في الكتاب ينتقد»سافيانو» بشدة الحكومة الإيطالية، والإدارات البيروقراطية والبنوك التي رفضت أن تمنح الفتى قرضاً لشراء البيت ما دفعه للالتحاق بالجيش، ومن ثم الموت بطريقة رهيبة. هكذا جنى سافيانو نقمة جديدة، واكتسب أعداء جدد: أقطاب من الحكومة الإيطالية هذه المرة.
وكما لو أنه استساغ اللعب في الأماكن الخطرة وإدخال يده في جحور الثعابين والرقص مع الذئاب، توجه أخيراً صوب التجارة الأكثر خطورة: الكوكايين. ليس في إيطاليا وحدها بل على امتداد الكرة الأرضية، ودوّن ذلك في كتاب عنونه: «زيرو زيرو زيرو»(صفر صفر صفر). وكما في كل نصوصه، هنا أيضاً عمد «سافيانو» هذا الصحافي المحترف ، بعمق وأناقة، إلى جمع عدد هائل من الأدلة والشواهد والوثائق والقصص والمرويات. وهو تفوق في الربط في ما بينها ربطاً محكماً لاستخلاص الدروس والخلاصات، فهو يعمد، في كل مرة، إلى النزول إلى ميدان العمليات، أي تلك الباحات الخلفية التي تجري فيها الوقائع، متقمصاً أدواراً ومرتدياً أقنعة، مغامراً ومخاطراً بحياته، من أجل أن يوفر للقارئ رواية متماسكة، صارخة، طافحة بالحقائق.
سافر من بلد إلى بلد ومن قارة إلى قارة ليتتبع سير التجارة المميتة للكوكايين وأجرى لقاءات مع الرؤوس الكبيرة من أل شابو غوزمان المكسيكي، إلى سيميون موغيليفيتش الروسي، ومن بابلو إسكوبار الكولومبي، إلى أصغر بائع في شوارع أوروبا.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة