ما لا يعول عليه

“المكان اذا لم يؤنث لا يعول عليه” ابن عربي
احدى ابرز نصوص شيخ العارفين محي الدين ابن عربي (1165-1240) تلقي الضوء على الخلل الاساس في فقدان هذا العالم لتوازنه، حيث الحب اساس الوجود وهذا لا يتفق الا بحضور الذكر والانثى، وذلك ما توصلت له الامم الحرة بعد مشوار طويل ومرير من التضحيات والثورات العلمية والقيمية. من دون شك ما زالت البشرية وبالرغم من التقدم الهائل الذي احرزته في مجال الحقوق والحريات؛ في بداية الطريق حيث ينتظرها الكثير لتحققه كي تسترد التعويل على “مكان عيشها” الذي عبثت به الذكورية المنفلتة. تعد مضاربنا المنكوبة احدى ابشع الامثلة على طغيان الذكور بعد الردة الحضارية التي عصفت بها نهاية السبعينيات، فبلد مثل العراق تصدر المنطقة في مجال استرداد النساء لباكورة حقوقهن ومكانتهن في المجتمع والدولة (أول قاضية وأول وزيرة..) وسن أفضل التشريعات (قانون الاحوال الشخصية لعام 1959) وغير ذلك من الخطوات للتحرر من قيود واوزار عبودية وركود وسبات امتد لاكثر من الف عام وعام؛ نجده اليوم وبالرغم من مرور 16 عاماً على زوال الدكتاتورية وانطلاق ما يفترض انها مرحلة للتحول صوب الديمقراطية والتعددية والحريات والحقوق بشتى انواعها ومستوياتها، يتخبط وسط هيمنة متزايدة لقوى وكتل وعقائد تهيم بسرديات القرن السابع الهجري واساطيره الذكورية.
ان مأساة النساء اليزيديات والمستمرة الى يومنا هذا وحدها كافية، لكشف كل هذا الحضيض الذي انحدرنا اليه (مجتمعات ومؤسسات، افرادا وجماعات، عقائد وشرائع و..) والتي لا يمكن لها الظهور لولا ذلك التمهيد الطويل من التقهقر العقلي والقيمي الذي عصف بمنطقتنا في العقود الاخيرة. كما ان تجربة الحكم الجديد وبالرغم من “الكوتا” والتي خصصت للنساء ربع المقاعد للبرلمان والمجالس المحلية؛ الا انها افرغت من وظائفها وغاياتها التي تستهدف اعادة التوازن لمجتمع ودولة افسدتهما الهيمنة الذكورية، حيث وصلت الى تلك المقاعد شريحة من النساء، بعضهن أكثر ذكورية من الذكور (مطالبة عدد منهن بتشريع يبيح للذكور تعدد الزوجات، او السماح بتزويج القاصرات وغير ذلك من شرائع القرون الوسطى، والتي عدها شيخ الازهر مؤخراً ظلماً للنساء). ويمكن ايضا التعرف على تجليات هذا البؤس القيمي والفكري، في تشكيلة حكومات ما بعد “التغيير” المتتالية، حيث تتقلص حصة المرأة فيها وعلى شتى المستويات، وحكومتنا الجديدة لم تكلف نفسها حتى بحقيبة واحدة لهن (من باب رفع العتب) بعد ان تبين لنا ان مرشحتهم التي نالت ثقة برلماننا العتيد؛ من عائلة داعشية عريقة..!
ومن خلال البوصلة التي اهدانا اياها طيب الذكر ابن عربي، فان حكومتنا الجديدة لا يمكن التعويل عليها، وهذا ينطبق على الكثير من اقطاعيات الذكور في المواقع السيادية، والتي تميز العراق من دون خلق الله جميعاً بعددها وامتيازاتها واجواءها الاسطورية. ان موقع المرأة ومكانتها ودورها هو من يحدد الاتجاه الفعلي للشعوب والامم، ونحن اليوم في حال لا تحسدنا عليه قبائل الهوتو والتوتسي التي تركت خلف ظهرها ما اعاد اكتشافه والتنقيب عنه جهابذة حقبة الفتح الديمقراطي المبين؛ من سناين ومدونات ومؤتمرات للقبائل والعقائد التي عفى عليها الزمن. لذلك سيبقى هذا الوطن المنكوب خارج حدود البلدان التي يمكن التعويل عليها للعيش الحر والكريم؛ من دون استرداد شرط عافيتها وتوازنها لحقوقها ومكانتها المستباحة..

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة