حلم الطفولة.. أعيدوا إلي طفولتي

يوسف عبود جويعد

في المجموعة النثرية الشعرية (أعيدوا إلي طفولتي)للشاعر ئاوات حسن أمين، تمتدد البنية النصية للنصوص الشعرية، عبر المساحة العمرية التي تبدأ من مرحلة الطفولة لتصل الى خريف العمر سن الخمسين، فيكون العالم الاول هو المنطلق الرحب الذي يستمد منه عنفوان النص وصورته الدلالية التي تنهل منه الحلم، الخيال، الأمل، المستقبل، الرحيق الذي يمده بالعطاء، وأكسير الحياة الذي يستمد منه البقاء والأستمرارية، لأنه يجد في عالم الطفولة البراءة والفطرة والحرية، وقد جاءت بنية العنونة لتؤكد هذه الر ؤية من خلال إختياره لنص نثري شعري يحمل مضمون تلك النصوص، كونه يطالب وبأستغاثة موجهة الى كل من كان سبب في سرقة عالم الطفولة وإنتزاعه منه عنوة أن يعيد له تلك الطفولة وأشياؤه التي رحلت معه ، وهو تواق ليعيش بين كنفه ولا يغادره لأنه يجد أن رحيل هذا العالم هو رحيل كل الأشياء التي تمنحه سر السعادة، وهو يستخدم في صياغته لقصيدته النثرية الإنزياحية الخفيفة غير المبهمة من تلك التي نحتاج الى فك طلاسمها وسبر أغوارها، وكذلك إستخدامه لمفردة شعرية بسيطة وواضحة، الا أن عمقها الفني والدلالي يكمن في صورتها الايحائية الغائرة في العمق،والتي تمنح المتلقي حالة من التأمل وسط تلك الإنسيابية الرائقة، والايقاع المتتظم الذي لا تشوبه شائبة، أو يعكر صفوه تلك التعثرات التي تكمن في المفردة الثقيلة، فنكون مع النص ومع وحدة موضوعه،الذي يبدأ بالتعريف ويتحرك متصاعداً نحو تفاصيل الثيمة، وترافقه في تدوين النص النثري الشعري، الأشياء التي تحيطه والتي تمثل حالة المعايشة معه، الشارع، المقهى ، مقر العمل، المكتبة، البيت، الكتب،والأشياء الأخرى التي تمر به وهو يرحل في تدوين النص، وهو يألسن تلك الأشياء لتدخل ضمن البناء النصي للقصيدة،وحيثما ما إقتضت الضرورية لإستحضارها مع الادوات التي تستخدم في بناء النص، وهكذا نكتشف في عملية صياغة قصيدة النثر للشاعر ئاوات حسن أمين، هي إتصالها المستمر بعالم الطفولة، وهمومه الكبيرة، وإحساسه المتنامي بوهن الكبر، وإستغاثته التي هي مضمرة تحت بناء النص للبحث المستمر عن الطفولة، لأنها الإنطلاقة الحرة التي يجدها الشاعر خالية من أي قيود، ويقول الشاعر في مفتتح ديوانه هذا:
( في البداية لم أكن أفكر في النشر، بل كانت الكتابة تدويناً لحياتي الخاصة ومستلهمة من انها نمت في وحدة قاتلة .. نتيجة الولادة والترعرع داخل اسرة كلاسيكية .. مكونة من جدّ وجدّة، بلا أم وأب ..!
لذلك خلقت الكتابة عندي نوعاً من انواع الانكسار والشعور بالحياء.. ما كان له تأثير على كل حياتي وتجربتي في الكتابة …)
وهكذا نجد هذا الإنكسار وهذا الشعوربالحياء والصدق الفني في صياغة القصيدة ادوات تضاف الى الادوات الاساسية في بنية النص.
ولكي تتضح الرؤية الفنية في مضامين هذه النصوص، فإنه يضع القصيدة النثرية (أعيدوا إلي طفولتي .. ضجرت من الكبر) عتبة نصية اولى لنمخر عباب تلك النصوص، ولكي نكون على معرفة تامة بالغاية الاساسية التي من خلالها قدم الشاعر هذه النصوص الشعرية، لأنه ومن خلال هذه القصيدة نرحل معه عبر مراحله العمرية، الطفولة، المراهقة، الشباب، وعندما يتعدى عمره الخمسين عاماً.
حيث نكتشف ومن خلال فضاء هذا النص الطفولة:
حشرت حبة حمص
في حنجرتي طفولتي
فسعلت وسعلت
حتى قاموا بضرب
ظهري بيد الايام
وعبأوا حلقي
بمياه مسمومة
فاندفعت حبة الحمص
خارجاً وارتقت
قامة عمري
وهذا النص يؤكد حضور ذلك الطفل الذي كان يسكن الوحدة في ثنايا النصوص.
ويمر على مرحلة المراهقة بنص قصير يؤكد سرعة مرورها:
اندمل الجرح
وإجتزت مرحلة
المراهقة
ليقدم لنا وفي هذا النص مرحلة الشباب والدراسة الجامعية والشهادة والوظيفة
في الجامعة
طاردوا عمري
من مدينة لأخرى
في سنين اربع
مليئة بالقلق
ويستمر الطواف في هذه المرحلة بلغة شعرية مكثفة مختزلة عميقة المعاني والدلالات لنصل الى :
أصبحت موظفاً
فأغلقوا عليّ أبواب السماء
وجففوا نبع الحياة
بعدها ننتقل وفي هذا النص ايضاً الى الإحساس الذي ينتاب المرء عندما يتعدى عمره الخمسين :
اليوم تعدى
عمري الخمسين عاماً
واصبحت عتالاً
لدى الايام
أحمل على ظهري
حقيبة تحاكي ذكريات الامس
فأصبحت كفنار
هوى على وجه البحر
وهكذا نكتشف أن الشعرية والشاعرية، والإحساس العميق والانسيابية العالية للنص النثري، تكمن في مدى ما يحمل الشاعر من خزين فكري وثقافي وتجارب حياتية تساهم في إنضاج النص.
وفي النص النثري الشعري القصير ( لك ما شئت ، ولي ايضاً)، يقدم لنا الشاعر رؤياه حول قوة التحمل، وهذا الهدوء الذي يسبق العاصفة أحياناً، وأن وراء هذا الصمت بركان يفور :
ليس كل طيران ،
تحليقاً..!
وليس كل غوص
سباحة..!
وليس كل مسامحة
مني، ضعفاً..!
فانتبهي.. فوراء
علو الجبل، منحدر
ووراء رقص الشجر
ألمّ
ووراء كتابة قصيدتي
تاريخ.. من الاسى.!
ومن الطبيعي أن نمر على حالة حب ووجد وهيام، مع تلك العلاقة الشفافة الرائقة وهذا الرابط النبيل الذي يصل المرأة بالرجل، الا وهو الحب، لنقف مع القصيدة النثرية (قطعة نثرية):
سهرت طوال الليل
أنتظر قدومكِ،
أأنتِ كذلك..؟
جعلتِ النجوم
واحدة واحدة
مصطفة على طريقك،
أأنتِ كذلك..؟
الحب له سحر عجيبٌ
يعطيني السكينة..
والطمأنينة
وكذلك نجد هذا الحب أصعب الإختيارت في القصيدةالنثرية الشعرية (اصعب الاختيارات):
بماذا تفكر ياصديقي ؟
ألم أقل لك
بأن الحب
عبودية
إختيارية..!
وإلا فلماذا
بدلت كل
حريتك
بزنزانة
وعن رؤيته الفكرية والحسية لالم الفراق والتي جعلها دروس في قصيدته النثرية (دروس الفراق) يقدم لنا صورة دلالية بالغة العمق:
عندما هم المسافر بالرحيل
رفع قبعته
ورماها خلفه
الغبار الذي احدثته السيارة
حوّل وجهه الى سراب
وكان يتوارى
شيئاً فشيئا
الى ان اختفى
من مكان سفره
ويقدم لنا الشاعر في رحلتنا مع هذه النصوص قصيدة نثرية عن مكتبته حملت عنوان (مكتبتي) والتي يصف فيها أن كل كتاب رف في هذا المكتبة لصديق عزيز رافقه وحدته ووحشة ايامه:
مكتبتي
بيتي الكبير
وحديقتي
المزدهرة،
لوح ذكرياتي
وأيامي الجميلة
العابرة..
مكتبتي
البوم إبداعات
وهكذا نطوف في هذا النص لنعرف محتوى تلك المكتبة من الكتب وكتابها في العالم الغربي والعالم العربي وشعراء وكتاب عراقيين بلغة شعرية شفيفة.
وفي القصيدة النثرية الشعرية (رحلة في متاهة الحياة) حيث نغور في أعماق الروح عبر تداعيات تمثل تلك المتاهة الحياتية :
ستتركها..
ككل شيء جميل.
ستترك..
هذا الجمال ايضاً..
كشمعة ذابلة ..
كوريقة فصل الخريف.
يتطاير نسيم شعرك
ليصير مشوشاً
ويداك ترتجفان
ضمت المجموعة النثرية (أعيدوا إلي طفولتي) للشاعر ئاوات حسن أمين، عدد من النصوص الشعرية لم نمر عليها تنحى هذا المنحى وقد تزيد عليه لما تحمل من مضامين فكرية وإنسانية وشعرية وحسية عميقة، تؤكد رؤيته الواعية لمعنى فن صناعة قصيدة النثر، التي تتطلب جهد واضح ووعي كبير، كما نكتشف أن عناوين تلك النصوص تمثل الحالة الشمولية لوحدة الموضوع والثيمة،وإنها رحلة استمدت قوتها من العالم الاول الطفولة لتطوف بنا عبر تجارب حياتية رائقة إستطاعت أن تناجي نواحي الحياة المختلفة, الحب, الفراق،حياة العمل،حياة البيت،الشارع، المقهى، وطافت بنا في متاهات الحياة،وهكذا نكتشف أن قصيدة النثر تعتمد على مدى إدراك الشاعر لهذا النمط الشعري المهم
****************************
من إصدارات الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق لعام 2018

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة