تفاؤل حذر… مستقبل الديمقراطية في جنوب آسيا

مرفت زكريا
بول ستانلاند

اندلع شجار عنيف داخل البرلمان السريلانكي 14 نوفمبر تشرين الثاني 2018 الأمر الذي انتهى ببعض النواب إلى المستشفى، على خلفية أزمة دستورية حدثت في أكتوبر تشرين الأول من العام ذاته، عندما حاول رئيس البلاد « مايتريبالا سيريسينا» الإطاحة برئيس الوزراء، واستبداله برئيس سابق، مما أدى لخروج المواطنون والمشرعون للتظاهر بسبب رغبة الرئيس في حل البرلمان، لكن قضت المحكمة الدستورية العليا في النهاية بعدم دستورية القرار.
فحتى وقت قريب كانت سريلانكا من أقدم الديمقراطيات الأسيوية، الأمر الذي جعلها بمأمن من موجات عدم الاستقرار، حيث انتهت الحرب الأهلية الدامية بكولومبو عام 2009، وبدت انتخابات عام 2015 وكأنها مرحلة جديدة من التحرر والليبرالية.
في السياق ذاته، لم تنفرد سريلانكا بالتميز الديمقراطي في جنوب أسيا، ولكن باتت المنطقة بأكملها أكثر استقراراً مما كان عليه الوضع منذ عقود، حيث خفت حدة العنف والاضطرابات، وعاد العسكريون إلى ثكناتهم، وتم احتواء فترات كبيرة من التمرد. كما تشهد منطقة جنوب أسيا نموا اقتصادياً يبلغ نحو 6 % سنوياً، وأصبحت بنجلاديش، ميانمار وباكستان – الدول التي كانت تحكمها الديكتاتوريات العسكرية في الماضي القريب-ديمقراطيات رسمية. لكن هذا الاستقرار الظاهر يتضمن مصادر كثيرة للقلق، اذ تتصاعد التوترات العرقية والدينية، ويحاول السياسيون الفوز بالأصوات من خلال مهاجمة المؤسسات المستقلة، ولكن تبين تجربة جنوب أسيا أن الديمقراطية لا تتقدم بسلاسة ولا تتراجع بصورة منتظمة.
فيقترن التمكين في بعض المناطق بالقمع في مناطق أخرى، وتؤدى الإصلاحات إلى صراعات جديدة، ويمنح فتح المجال للمنافسة السياسية الناس الحق في الفوز بالأصوات، ولكن هذه العملية قد تكون غير ليبرالية بنحو كبير فالانتخابات المنتظمة لا تمنع حدوث الأزمات السياسية، ومن هنا يوضح المسار الديمقراطي في جنوب أسيا أهمية استغلال الفرص لتحصين الديمقراطية الليبرالية قبل زوالها.
أولاً: محفزات الأزمة
تعود جذور الأزمة في سريلانكا إلى عهد الرئيس السابق «ماهيندا راجاباكسا» التي تحول الوضع فيه سيما عام 2009 إلى ما يشبه الاستبداد. فعلى الرغم من انهاء « راجاباكسا « الحرب الأهلية في سريلانكا التي استمرت لمدة 25 عاماً، لكنه مُنى بهزيمة كبيرة من قبل حركة نمور تحرير تأميل الانفصالية التي عرفت باسم « نمور التأميل»، واعيد انتخابه في عام 2010، وانتقل مع عائلته وحزب الحرية السريلانكي إلى مركز السلطة، مما مكنه من توسيع نطاق سلطاته والتقرب إلى الصين. وفي النهاية أظهرت تقارير نشرتها المنظمات الحقوقية في كولومبو علاقة وطيدة بين «راجاباسكا» وملفات الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان.
كان «سيريسينا» عضواً في حزب الحرية السريلانكى، ولكن انشق عنه خلال الانتخابات الرئاسية عام 2015 متحدياً الرئيس السابق «راجاباسكا» بدعم من الحزب الوطني المتحد وأحزاب المعارضة الأخرى. فاز «سيريسينا» في الانتخابات وشرع في تطبيق ما زعم بكونه أجندة إصلاحية طموحة تهدف إلي كبح السلطة التنفيذية والتصدي لأثار الحرب الأهلية.
وعلى الرغم من سعي الحكومة لتطبيق معظم عناصر الأجندة السياسية التي أعلن عنها الرئيس السريلانكي «مايتريبالا سيريسينا»، إلا أن الأمر انتهى في 13 ديسمبر كانون الأول لعام 2018 بسجن «سيريسينا» على خلفية حله للبرلمان بطريقة غير دستورية، ورغبته بإعادة الرئيس السابق «راجاباسكا» كرئيس للوزراء بطريقة غير شرعية. على الرغم من انتهاء الأزمة بنحو فورى، إلا أنها كشفت عن مواطن ضعف عميقة في النظام الديمقراطي السريلانكي من غير المرجح أن تختفي.
ثانياً: مخاطر الصراعات الإثنية
تعد الاضطرابات العرقية من أشد الأزمات السياسية التي تعاني منها سريلانكا منذ الخمسينات، اذ كان يمثل الرئيس السابق «راجاباسكا» شريحة قوية من العرقية البوذية السنهالية التي لعبت دوراً كبيراً في تعزيز العنف العرقي، من خلال التعويل على تغلغل القيم الأجنبية في ثقافات بلدانهم، لكن يذهب هذا النوع من المشكلات إلى ما وراء سريلانكا، الأمر الذي جعله يهدد معظم ديمقراطيات جنوب أسيا.
واصبحت العملية الانتخابية روتينية في جميع أنحاء شبه القارة الهندية، فغالباً ما تكون حرة ونزيهة، ولكن ما تزال هناك نزعة عرقية ودينية. ويتمثل الدافع الأساس وراء مثل هذه الأحداث بمعضلة الأغلبية الأقلية. وعلى الرغم من أن حكم الأغلبية هو السائد في هذه البلدان، إلا أن الناشطين السياسيين يجادلون بأن التأثيرات عبر الوطنية، التغيرات الديمغرافية طويلة المدى وفساد النخبة من شأنه أن يقوض سلطة هذه الجماعات، كالشعوبيين في الغرب الذين يزعمون أنهم وحدهم قادرون على حماية الأغلبية من هذه التهديدات، حتى عندما تكون هذه الجماعات مهيمنة بالفعل.
ولذا، أسس رئيس الوزراء الهندي «ناريندرا مودي» حزب «بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي» عقب فوزه عام 2014، والذي قام من خلاله بتوسيع عدد الولايات الخاضعة لسلطاته. وعلى الرغم من كونه حزب ضعيف إلا أنه مازال يتمتع بشعبية كبيرة حتى عام 2019، حيث أصبحت الحزبية الهندوسية مشروعاً سياسياً قوياً في الهند، وعلى الرغم من أن الكثير من الهنود لا يوافقون على هذه السياسة، ولكن السعي لمنح الهندوس مكانة متميزة تقدم بنحو كبير خلال السنوات الأخيرة، إلى الدرجة التي جعلت المحللين يعيدون تعريف الهند على أنها نظاماً سياسياً هندوسياً.
وكذلك، تعود جذور حرب سيريلانكا الطويلة مع «نمور التأميل» إلى صعود القومية البوذية السنهالية، وهي جماعة من السياسيين التي ما تزال تتمتع بنفوذ كبير في البلاد، اذ حاول الحزبان السنهاليان المهيمنان في البلاد أن يتفوقا على بعضهما البعض في الفوز بدعم القومية البوذية، مما عمل على الحد من قدرة النظام السياسي السريلانكي على استيعاب الأقليات التاميلية والمسلمة في البلاد. واتاحت انتخابات سريلانكا لعام 2015 فرصة لمعالجة مثل هذه التوترات العرقية، لكن القوميين السنهاليين عارضوا هذه الجهود، مما ساهم في التدهور التدريجي لجدول الأعمال الإصلاحي.
ربما تكون الحالة الأكثر دراماتيكية في جنوب آسيا والتي عادت فيها القومية العرقية إلى اضطهاد حقيقي هي ميانمار، بعد إخفاق رئيستها الفعلية « أون سان سو تشي « بإدانة الحملة العسكرية الوحشية على شعب الروهنجيا المسلم. ولكن عندما تُهزم الأغلبية السياسية في الانتخابات، فأنها تلجأ إلى الشارع، ففي الوقت الذي مُنيت فيه الأحزاب الدينية الباكستانية بإخفاقات انتخابية كبيرة، تمكنت المنظمات الدينية من استغلال الشكوك والتعصب ضد جماعات الأقلية لتعبئة مؤيديها.
ثالثاً: إخفاق الديمقراطية
تتعايش ديمقراطية الانتخابات في جنوب آسيا بنحو غير مريح مع المؤسسات السياسية المستقلة، وخاصًة أنظمة العدالة، اذ تجبر المنافسة الشديدة المرشحين على الالتفات إلى ناخبيهم، مما يجعلهم أكثر استجابة، لكن هذه المنافسة تدفعهم أيضاً إلى تسيس المحاكم، البيروقراطية وإنفاذ القانون.
وأظهر السياسيون البارزون في سريلانكا تجاهلاً صارخاً للدستور خلال أزمة النزاع بين الرئيس الحالي ورئيس الوزراء السابق المشار اليها سابقا، اذ قدموا مجموعة كبيرة من المبررات لأفعالهم، فعلى الرغم من اثبات السلطة القضائية في سريلانكا لمدى قوتها، لكنها عانت من إجهاد لم يكن ينبغي أن يحدث في المقام الأول. وفي بنغلاديش، استغلت رابطة عوامي التي ترأسها «حسينة واجد» رئيسة الوزراء الحالية، فكرة الإفراط في الإجراءات في إطار سعيها للقضاء على منافسيها قبل الانتخابات العامة الأخيرة، وعلى الرغم من فوز رابطة عوامي بأغلبية ساحقة، لكن شابت حملة وسنة الانتخابات أعمال عنف مميتة ومزاعم بحدوث مخالفات انتخابية خطيرة.
لقد أقرت الحكومة قوانين تقيد حرية التعبير، اعتقلت الصحفيين والمعارضين، واستعملت الشرطة لاستهداف المنافسين السياسيين. ومن المفارقات أن رابطة عوامي تبرر تدميرها للمؤسسات السياسية التي تهدف إلى حماية الحقوق والأمن العام بالانتماء للأغلبية الدينية التي تتمتع بمكانة كبيرة، وتشكيل معارضة إسلاميّة قوية.
وفي الهند، قامت الحكومة بنزع سلطات المؤسسات الوطنية المهمة، والتي يُزعم أنها تدخلت فيها لصالح حزب مودي. كما شهد المكتب العام للتحقيقات والبنك المركزي الهندي نزاعات دراماتيكية وعلنية على خلفية أزمة المصداقية التي تعاني منها مؤسسات الدولة النخبوية، اذ يسعى الحزب الحاكم «بهاراتيا جاناتا» إلى الحفاظ على أعلى مستوى من السلطة على حساب المعارضة السياسية.
لكن الجديد في الأمر، معاناة معظم دول جنوب أسيا من المشكلة العكسية التي تتمثل في تدخل العسكريين في الشؤون المدنية، بدلاً من تدخل السياسيين المنتخبين في شؤون المؤسسات المستقلة. فعلى الرغم من انسحاب الجيش من الشأن السياسي في الكثير من الدول الأسيوية التي شهدت فترات طويلة من الحكم العسكري، ولكنهم ما زالوا يتدخلون في السياسة.
ختاماً: لا يمكن مقارنة مشكلات جنوب أسيا-العرقية والدينية، الهجمات على المؤسسات المستقلة، النفوذ العسكري المتزايد-بالمزايا المتعددة للديمقراطية الليبرالية، إلا أن تجربة سيرلانكا تُظهر أنه من الصعب التمييز بين التقدم والارتداد. تتراجع الديمقراطية بنحو كبير لدى بعض البلدان الأخرى مثل المجر، وعلى الرغم من أن هذا ليس هو الوضع في جنوب آسيا المليئة بالتناقضات، ولكن يجب أن يتحلى أولئك الذين يدافعون عن الديمقراطية باليقظة، سيما فيما يتعلق بمشروعات حماية حقوق الإنسان، مواجهة الساسة الذين يقوضون سلطات المؤسسات المستقلة والمنظمات التي تسعى إلى الهروب من المساءلة.

المركز العربي للبحوث والدراسات

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة