الجيش الأوروبي الموحد .. إرهاصات الواقع والمستقبل

فاطمة أحمد

يُعد الاتحاد الأوروبي انموذجاً مثالياً يحتذى به في مجال التكامل الاقليمي حيث ترتبط دوله بمكونات تاريخية، ثقافية اجتماعية، اقتصادية، وسياسية أهلَّها لتكوين اتحاد قوي على المستوى الإقليمي.
وترجع جذور نشأت الاتحاد الأوروبي إلي معاهدة الفحم والصلب الموقعة في روما سنة 1957بين ستة دول أوروبية، وأفضت إلى إنشاء السوق الأوروبية المشتركة، ودخلت هذه الاتفاقية حيز النفاذ عام1958 والتي بموجبها تم إنشاء المنظومة الاقتصادية ومنظومة الطاقة لذرية اللتان تعملان بالتوازي مع منظومة الفحم والصلب الأوروبية، وكنتيجة حتمية لعمل المنظومات السابقة معاً، نجمت عنهما الجماعة الأوروبية عام1967 وأنضم إليها بعد ذلك عدد من الدول الأوروبية. (1)
ويأتي بعد ذلك منعطف تاريخي مهم في حياة الاتحاد الأوروبي، ألا وهي معاهدة ماستريخت الموقعة في مدينة ماستريخت الهولندية عام1991 والتي رسخت مفهوم الاتحاد الأوروبي، وعدته تطوراً للجماعة الأوروبية، كما أكدت الاتفاقية علي مبدأي السياسة الخارجية والأمنية المشتركة لدول الاتحاد الأوروبي، والتحرك معاً نحو سياسات الهجرة واللجوء ومكافحة الإرهاب، وأخذ الاتحاد الأوروبي يتطور شيئا فشيئا نحو التكامل الإقليمي، حتى ظهر ما سمي بالعملة النقدية الموحدة «اليورو الأوروبي» كعملة موحدة يجري التعامل بها بين دول الاتحاد الأوروبي، المواطنة الأوروبية، والدستور الأوروبي الموحد، البرلمان الأوروبي، ومؤخرا الدعوة إلى إنشاء جيش أوروبي موحد.(2)
وخلال الذكرى المئوية على مرور الحرب العالمية الأولى يوم السادس من فبراير شباط 2018 وُجد أن الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» يدعو إلي ضرورة إنشاء جيش أوروبي موحد أطلق عليه «الجيش الأوروبي الحقيقي» والذي يتمكن من حماية دول الاتحاد من القوى الكبرى، مثل روسيا والصين وحتى الولايات المتحدة، مؤكداً في حديثة «علينا أن نحمي أنفسنا تجاه الصين وروسيا، وحتى الولايات المتحدة الأميركية». محذراً في الوقت نفسه من عودة قوى متسلطة إلى الظهور، قد تعيد التسلح عند الحدود الأوروبية، ولم تكن هذه الدعوة من الرئيس الفرنسي لإنشاء جيش أوروبي موحد هي الأولى من نوعها وإنما نادى بذلك منذ عامين قبل تولي الرئيس الأميركي دونالد ترامب. (3)
وعلى الصعيد الألماني أيدت «أنجيلا ميركل» المستشارة الألمانية فكرة إنشاء جيش أوروبي موحد والتي طرحت من قبل الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، ودعت ميركل خلال خطاب أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ إلى تأسيس الجيش الأوروبي الموحد وقالت في خطابها «علينا وضع رؤية تتيح لنا أن نصل يوما ما إلى إنشاء جيش أوروبي حقيقي»، وبينت ميركل أن الجيش الأوروبي لن يكون جيش ضد الناتو -حلف شمال الأطلسي- وإنما يعمل علي ترسيخ مكانة قوية للاتحاد داخل التحالف العسكري، ليس ذلك فقط وإنما أيضا ترسيخ مكانة الاتحاد الأوروبي على المستوى العالمي، واقترحت إنشاء مجلس أمن أوروبي مع رئاسة دولية يمكن من خلاله اتخاذ قرارات مهمة بنحو أسرع.(4)
كما أشرت كل من وزيرة الدفاع الفرنسية «فلورنس بارلي» ونظيرتها الألمانية «اورسولا فون دير لاين» في مؤتمر ميونيخ للأمن المنعقد في 16فبراير/شباط 2018 على ضرورة وضع استراتيجية استقلالية للاتحاد الأوروبي من الناحية العسكرية حتى لا تقع تحت طائلة الدول الكبرى، خاصة في ظل عدم الاستقرار المحيط بالقارة الأوروبية، وشعورها بأن هناك حاجة ملحة لتكوين جيش أوروبي موحد، يكون حائطاً وسداً منيعاً ضد التغيرات الإقليمية والعالمية، في الوقت التي تواجه فيه دول الاتحاد الأوروبي عدد من المشكلات التي تهدد أمنها القومي، كما أنها ترغب في المزيد من الاعتماد على الذات، وتقليل الاعتماد علي الولايات المتحدة الأميركية خاصة في ظل القيادة السياسية الجديدة منذ تولي الرئيس الأميركي دونالد ترامب مقاليد الحكم في عام2016 ورفع شعار «أميركا أولاً».(5)
الدوافع الكامنة في الدعوة الفرنسية لإنشاء جيش أوروبي موحد
1- دوافع معلنة
1) مواجهة كل من روسيا، الصين، الولايات المتحدة الأميركية: تشكل روسيا خطر حقيقي بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي خاصة بعد سعي الأولي إلي استعادة مكانتها على الساحة الدولية وقد ظهر ذلك جلياً عندما قامت روسيا بضم واحتلال شبه جزيرة القرم في مارس/أذار2014 بنحو غير شرعي، إضافة إلى دعم الحركات المتمردة في أوكرانيا الشرقية، الأمر الذي يمثل تهديداً لسلامة وأمن الحدود الإقليمية لأوروبا، خاصة بالنسبة للدول التي تشترك مع روسيا في حدود جغرافية مثل دول البلطيق، وبولندا، وفنلندا، والنرويج، الأمر الذي جعلها تعيش في حالة من احتمالية التعرض لغزو روسي، مما جعل النظرة الأوروبية لروسيا تتغير بنحو كبير في ظل الأزمة الأوكرانية، خاصة في ظل إدراك هذه الدول حقيقة عدم التوازن العسكري بين القوات الروسية والقوات الأوروبية صغيرة الحجم، إضافة إلى تمدد أذرع الدولة الروسية داخل منطقة الشرق الأوسط، والتأثير بإعادة تشكيل موازين القوي من خلال اعتماد روسيا على آليات محددة تتمثل بنشر المعلومات المغلوطة، التدخل في الانتخابات، قرصنة المعلومات، وتجنيد مؤيدين بين السياسيين، كل ذلك مثل تهديداً أمني لدول الاتحاد الأوروبي الأمر الذي دفع الرئيس الفرنسي لوضع روسيا في المرتبة الأولى من المهددات الأمنية لاستقرار الدول الاعضاء داخل الاتحاد الأوروبي.(6)
بالنسبة للصين: قد تمثل الصين من خلال قوتها الاقتصادية خطر أكبر للاتحاد الأوروبي من روسيا نفسها، حيث تمتلك الصين استثمارات هائلة داخل الاتحاد الأوروبي، مما يعد غزواً اقتصادياً، كما أنها تشكل اقتصاداً مغريا بالنسبة للدول الأوروبية ذات الاقتصاديات الضعيفة، كما أن الصين تعمل علي إقامة علاقات ودية قوية مع القيادات الأوروبية المؤيدة للسياسات الصينية، إضافة إلى سعي الصين الجاد إلي إقامة لوبيات ضغط، وتحسين المواقف تجاه نفسها لتحقيق ظروف عمل أفضل.(7)
بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية-وُجد أن المخاوف الأوروبية من تهديد أميركي محتمل يرجع في أعماقه للتواجد الأميركي داخل القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، اذ استطاعت أن توظف مشروع مارشال ليس فقط لمساعدة الدول الأوروبية، وإنما بما يخدم مصالحها في المنطقة حيث استطاعت أن تولد شعور نفسي لدى الدول الأوروبية بأن الولايات المتحدة الأميركية هي الحامي الأول لدول القارة الأوروبية. (8)
كما أنها عمدت دائماً إلي التواجد بقوة داخل القارة الأوروبية لتطويق النفوذ الروسي، ولكن ازداد شعور دول الاتحاد الاوروبي في الآونة الأخيرة بخطورة الاعتماد الكبير علي الولايات المتحدة الأميركية، خاصة من الناحية العسكرية مع تولي الرئيس الأميركي دونالد ترامب مقاليد الحكم 2016، بعد أن قامت حملته الانتخابية على شعار « أميركا أولاً» ومجموعة من الأفكار التي تهدد الأمن الأوروبي مثل رؤية ترامب بأن المشكلات التي تواجهها الولايات المتحدة الأميركية ترجع لانخراطها المتزايد ف قيادة العالم _ ملوحاً بنحو غير علني عن تحمل أعباء أمنية تجاه دول الاتحاد، اذ تساهم الولايات المتحدة الأميركية بالجزء الأكبر من النفقات العسكرية داخل حلف شمال الأطلسي_. كما أن ولاية دونالد ترامب قد غيرت الرؤية المتوافقة بين الطرفين بشأن القضايا الدولية، وتجسد ذلك بوضوح في قضايا الشرق الأوسط، على رأسهم قضية القدس، وقضية كوريا الشمالية، والقضية النووية الإيرانية، والموقف الأميركي تجاه النفوذ الروسي، الأمر الذي عزز من مخاوف دول الاتحاد الأوروبي، خاصة بعد تلويح ترامب بالخروج من المعاهدات الدولية، مثل معاهدة الصواريخ المتوسطة المدى، والاتفاق النووي الإيراني.
2- دوافع غير معلنة (9)
1) حالة عدم الاستقرار الأمني داخل منطقة الشرق الأوسط: عانت دول الاتحاد الأوروبي خلال التغيرات السياسية في منطقة الشرق الأوسط منذ ثورات الربيع العربي، من تهديدات أمنية تمثلت بتدفق اللاجئين والارهابين من خلال إيطاليا واليونان، الأمر الذي دعى إلى التقارب الفرنسي الألماني من أجل إنشاء جيش أوروبي موحد من أجل التصدي لهذه التهديدات الأمنية.
2) انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي: تشكل بريطانيا القوة النووية الثانية لدول الاتحاد الأوروبي بعد فرنسا، الأمر الذي عزز الشعور لدى كل من فرنسا وألمانيا بحالة الفراغ الأمني في حالة خروج بريطانيا بشكل نهائي من الاتحاد الأوروبي.
3) مجد شخصي: يسعي «ماكرون « من خلال طرح فكرته إلى قيادة الاتحاد الأوروبي وتعزير مكانة فرنسا على المستوى الأوروبي والدولي، وفي جانب الآخر نجد أن «ميركل» تطمح في تحقيق إنجاز أوروبي ينسب لها كي تختتم حياتها السياسية وذلك من خلال إنشاء جيش أوروبي موحد.
السيناريوهات المحتملة
وهنا يرى الباحث أنه من الصعوبة أن يؤسس الجيش الأوروبي الموحد خاصة في ظل المعارضة الأميركية الشديدة لفكرة الرئيس الفرنسي، اذ علق دونالد ترامب على ذلك» بأنه أمر مهين للغاية» وندد بأن تسدد الدول الأوروبية إلتزاماتها المالية داخل الحلف الناتو أولاً، ًكما علق ساخراً « لولا الولايات المتحدة الأميركية لتحدث الفرنسيون الألمانية» ونجد أن الرفض الصارم من الولايات المتحدة يرجع إلى أن إنشاء الجيش الأوروبي الموحد من شأنه أن يقلص القيادة الأميركية للمعسكر الغربي، الأمر الذي حاولت الولايات المتحدة الأميركية الحفاظ عليه دائماً، كما أن هناك عدد من دول الاتحاد نفسه ترفض فكرة الرئيس الفرنسي لإنشاء جيش أوروبي موحد.
_ السيناريو الثاني يتمثل في تحقيق الرغبة الفرنسية الألمانية بإنشاء جيش أوروبي موحد وذلك بسبب إدراك عدد من دول الاتحاد الأوروبي بخطورة الاعتماد المتزايد على الولايات المتحدة الأميركية، مما يكون دافع قوي لزيادة الميزانية العسكرية ومن ثم إنشاء جيش مستقل يعمل على حماية دول الاتحاد من أي اعتداء أو تهديد خارجي، إضافة إلى الإدراك الأوروبي بخطورة الاعتداء الروسي على الفضاء السيبرايني.
_ ويتمثل السيناريو الأخير في بقاء الدعوة الأوروبية لإنشاء جيش أوروبي مستقل كما هي، اذ لم تكن دعوة «ماكرون» الأولى من نوعها، وإنما طرحت فكرة إنشاء جيش أوروبي قبل ذلك عدة مرات، ومن المحتمل أن تُكون أوروبا جيشاً أوروبياً موحداً، ولكن ليس المدة الحالية، وإنما خلال سنوات مقبلة ليست بالقريبة.

الهوامش
(1) عمرو الشوبكي، أوروبا من السوق إلى الاتحاد: صناعة موحدة.
(2) حقائق عن الاتحاد الأوروبي، بي بي سي، 2017.
(3) ماكرون يدعو لإنشاء «جيش أوروبي حقيقي» للتصدي للولايات المتحدة وروسيا،2018.
(4) بعد ماكرون ميركل تدعو لتأسيس جيش أوروبي حقيقي، 2018
(5) برلين وباريس تؤكدان على ضرورة تولي أوروبا الدفاع عن نفسها،2018
(6) أندرو رادين، إف ستيفن لارابي وآخرون، العلاقات الأوروبية مع روسيا: تصورات التهديد والاستجابات والاستراتيجيات في أعقاب الأزمة الأوكرانية، مؤسسة راند، 2017.
(7) الصين تهدد وحدة أوروبا، RT Arabic، 2018.
(8) الاتحاد الأوروبي بين أميركا وروسيا، مركز الروابط للدراسات الاستراتيجية والسياسية، 2016.
(9) منى سليمان، لماذا تجدد ألمانيا وفرنسا الدعوة لإنشاء جيش أوروبي موحد؟ مجلة السياسة الدولية،2018.
المركز العربي للبحوث والدراسات

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة