الديمقراطية في أميركا

يتناول كتاب “الديمقراطية في أميركا” للباحث والخبير شبلي ملّاط، ظاهرة مهمة للغاية على الصعيد العلمي وعلى الصعيد السياسي، ألا وهي تشريح العملية الديمقراطية، وتشريح النظام الديمقراطي، ولعل أفضل طريقة لإنجاز هذا الهدف المهم في عالمنا وفي بلدنا الباحث بلهفة عن انموذجه الديمقراطي أنه يرتكز على دراسة حالة عيانية مهمة وهي حالة الديمقراطية في الولايات المتحدة.ومن القضايا المهمة في هذا الكتاب ارتكازه الى واحدة من أهم المرجعيات في الدراسات الديمقراطية أليكسس دي توتكيفل الذي يعدّ أهم المراجع المتاحة لدراسة هذه التجربة.
وكذلك تكمن أهمية الكتاب في أنه يشير الى التحولات الجديدة في العالم الراهن وهي تحولات لابد من وضعها في إطارها التاريخي والإنساني.وهو أيضا يرسم الطريق لمجتمع بلا عنف، ومجتمع يرتكز على التعاون والتفاهم الإقليمي المرتكز على نشر قيم المساواة، ومحاربة الفقر، ونبذ الاستغلال الاقتصادي للشعوب.
كما أنه يتيح للقارئ إدراك إمكانية خلق نظام عالمي واسع من دون أوهام التسلط الإمبريالي أو الدكتاتوريات الأيديلوجية، ويعلي بشكل كبير دور العدالة والقضاء في تنظيم التوازن الاجتماعي وتعزيز القيم الحضارية والانتصار للعدل والحياة.
تنشر “الصباح الجديد” حلقات من هذا الكتاب كإسهام في تعميق الجدل والمعرفة وتوسيع دائرة العلم بالمناهج والمراجع الضرورية للعملية الديمقراطية بنحو عام وفي العراق بنحو خاص.
الحلقة 14
شبلي ملّاط:

وهكذا ومع “المفاهيم السياسية الاساسية” المشتركة في الانظمة الديمقراطية فأن وجود كل من الفيدرالية والمحكمة العليا في متناول المواطن الحريص على حقه الاساسي في ظل الدستور يمثل القاعدة المزدوجة للمعادلة التي يحتاج اليها العالم للمضي قدما على طريق دولة القانون العالمية.
وتطبيقا للعناصر المقدمة في بداية هذا الفصل في اطار جامع لسياسة خارجية اميركية اخلاقية وفعالة ، قد يكون مفيدا اعادة ترتيب المعادلة المقترحة على الشكل التالي (اولا) في مقابل المثالية ، فأن القضاء الفعال على يد محاكم عليا تحفظ الدستور الوطني والقيم الانسانية المشتركة كفيل بتوفير تدابير ملموسة لتثبيت الاستقرار وقابلية النمو في الدول موضوع السياسة الخارجية الاميركية ، (ثانيا) وفي مقابل النزعة الانعزالية على تدخل اميركا في الخارج ان يكون رهن التقدم نحو الفيديرالية في النزاعات الاقليمية المستشرية وفي الدول ذات الحكومات الضعيفة و (ثالثا) في مقابل ثقل المسارات الداخلية في الولايات المتحدة ، فأن لغة الرئيس الاميركي في تعاطيه الخارجي لن تكون مقنعة لشعبه طالما هي غير مرتبطة بالتراث الوطني وان كان صدى هذا الحديث يختلف في الحقل الدولي عما هو عليه داخل الولايات المتحدة. فمهما كانت الديباجة الخطابية مختلفة داخليا ودوليا فأن الفرق لا يتعدى الشكل الى الجوهر، وهنا يكمن دور التفنن واللباقة في قيادة اميركية منورة. وبالعودة الى طرحناه ان ماسبق لا يشكل سوى تفرعات من الاوراق الفيديرالية والدستور الاميركي ، فهذا يعني ايضا ان النظام الدستوري هو الذي ادى الى عظمة الولايات المتحدة ، ولابأس اذا تمثل به العالم. وقد يكون مثل هذا الطرح مبالغا فيه ، كما انه يهدد بإلهاب المخاوف من تحويل واشنطن شرطيا للعالم. لكن العبرة في التطبيق ، ولا ينفع “الاكتفاء بالتشدق بالديمقراطية” بحسب قول الجنرال دوغول المأثور.
والعمل على توفير صمام الامان الديمقراطي في العالم بتشجيع التجارب الفيديرالية والركون الى القضاء الوطني للدفاع عن الكرامة الشخصية وكرامة الجماعات القومية والاقليمية هو عمل واسع النطاق بالغ التعقيد للرئيس الاميركي ايا كان. لكن الخطوط العريضة مرسومة منذ سنة 1787 ، وقد اغتنت وترسخت في التراث الاميركي الداخلي على امتداد قرنين. مثلها مثل اي مفهوم خلاق ، فأن هذه الاكتشافات قابلة للتحسين فكرا وعملا.
13. سياسة ثقافية في عالم متنوع
“نحن لا نريد من نواب الجنوب ان يتعصبوا لطائفة دون طائفة ولا لعنصر دون عنصر ولا لأقليم دون اقليم ، ولا نريد منهم ان يجعلوا من جبل عامل اميركا الثانية”. كاتب هذه السطور في سنة 1947 عالم مسلم شاب من اهل الشيعة هو محمد جواد مغنيه. ومغنيه الذي توفي سنة 1979 كان فقيها مرموقا من جنوب لبنان ، المنطقة المعروفة ايضا في التاريخ بجبل عامل ، او بالجليل الاعلى وقد وصف الفقر المدقع في الاربعينات في مشاهد مذهلة: “اما الحالة الصحية فالحديث عنها ذو شجون وفنون. في سنة 1945 فتكت بهذه القرى الملاريا ذريعا ، فلم يسلم منها واحد بالمئة واودت بحياة المئات.. واشد من المرض وقعا الوصول الى الطبيب لعدم تسهيل المواصلة واذا طلبوا اي طبيب اليهم تقاضى منه ليرة اجر ذهابه وايابه ، فكانوا اذا لم يستطع المريض الركوب على الدابة يضعونه في نعش الاموات ويحملونه على الرؤوس والاكتاف كما يحملون الميت ليوصلوه الى طريق السيارات ، فيوحي هذا المنظر المخيف في نفس المريض هواجس الموت فيزيد في علته ، وربما قضى على حياته ، وكان حاملوه كلما مشوا قليلا وضعوه على الارض واختبروه هل مات من الخوف وحرارة الشمس ولفحات الهجير! واني اعرف افرادا معرفة شخصية ماتوا على هذه الحالة المشجية قبل ان يبلغوا الطريق العام!”. “ولسنا بصدد الطلب من نواب المنطقة” ، يتابع مغنيه في نصه اللافت “ان يجعلوا من جنوب لبنان اميركا الثانية ، وانما نريد ان يكون جبل عامر جزءا حقيقيا من لبنان له ما له وعليه ما عليه ، فتقاس مدارس جبل عامر بمدارس جبل لبنان وطرقاته بطرقاته ومستشفياته بمستشفياته ، حتى اذا جاء التاريخ قاس جميع اجزاء الجمهورية اللبنانية بمقياس واحد دون تفاضل وتمايز بين جزء وجزء”.
هذا رجل دين محترم من الطائفة الشيعية في لبنان يتحدث عن الولايات المتحدة منذ نصف قرن وكأنها جنة لا ينتظر من وطنه ان يرتقي الى مستواها دفعة واحدة. فكيف يمكن تفسير الهوة العظيمة بين الصورة التي رسمها عالم شيعي جليل في منتصف القرن يجعل فيها اميركا مثالا بعيد المنال ، وبين صورة نهاية القرن الغاضبة بشعب مغنيه واهله يهتفون “الموت لأميركا” كلما احتشدوا في الساحات العامة؟
لهذا السؤال اجوبة عديدة ليس اقلها احتلال اسرائيل جنوب لبنان لفترة ربع قرن ، وعلاقة اسرائيل المميزة بأميركا ، واستمرار الفقر والتردي الاقتصادي في المنطقة ، واخفاق السياسات اللبنانية والشرق اوسطية ازاءها. فالبعد التاريخي في المسألة ضروري لفهم الشرق الاوسط المعاصر ، لكن هذا البعد خارج عن موضوعنا الحاضر، ولسنا الان بصدد تقويم النظرة اللبنانية او العربية الى الجنوب اللبناني في علاقته بالسياسات الاميركية وطوارئها ما بين سنة 1947 وسنة 2000. والمقطع مدرج في الحديث لهدف اخر، لأنه يعبر عن حلم المفكر ورجل الدين في قيم عالمية وحالة اجتماعية مرتبطة بصورة مثالية بأميركا ، اشترك فيها الكثيرون في زمن غير بعيد. فرمزية “اميركا” في حديث محمد جواد مغنيه مفتاح وهدف لحكومة الولايات المتحدة اذا ما ارادت ان تعيد الاعتبار الى بلادها كصورة الجنة الضائعة.
والطريق الى الجنة المستعادة واضحة المعالم على العموم ، وهي محكومة بمبدأ العدالة الفطرية التي عبر عنها شايلوك shylock في مسرحية شكسبير: “فأذا كنا مثلكم في سائر الامور ، فأننا مثلكم في هذا”. والقيم العالمية يشترك فيها المواطن الاميركي مع اي شخص اخر. وبمقابل القيم الاساسية العالمية ، تتحول اية نظرة نسبية للثقافة cultural relativisn للنيل من هذه الحقوق الثابتة عبارة عن خطأ في المنهج او سوء في النية ، ايا كانت صياغتها من داخل اميركا- من نوع “لا يمكننا ان نفهم هؤلاء
الناس لانهم لا يشتركون معنا في قيمنا الاساسية)) ،-او من الطرف الاخر تجاه اميركا ،على منوال ((لا يمكن للأميركيين يفهموا ما نحن عليه لان قيمنا مختلفة عن قيمهم)).
والجدل قائم بين عالمية حقوق الانسان والنسبة الثقافية منذ فترا طويله ، الا ان اخذ زخما مميزا في السنوات العشر الماضية ، وليس من موضوع يتناوله هذا النقاش على الساحة الدولية ،من حقوق بيئية في مؤتمر ريودي جينيرو سنه 1992 مرورا بحقوق المرأة في بايجينغ سنه 1995 الى الجرائم ضد الإنسانية في مؤتمر روما سنه 1998 .
وكيفما يقدر التلاقي والاختلاف بين الدول والشعوب ،فانه لا يجوز ان ترقى وجوه الاختلاف الى نفي ان حقوق الشخص الأساسية هي قيم مشتركة للإنسانية ،
ويلتقي في هذه الحقيقة الاولى كل من الحديث النبوي الشريف عن كوكننا (سواسيه كاسنان المشط ) وما جاء على لسان شايلوك ،من (اننا جميعا مقتادون بالطعام ذاته ،متألمون من مضاء السلاح ذاته ، مرضى بالداء ذاته ، معافون بالدواء ذاته ، مدفؤون ومبردون بالشتاء والصيف ذاتهما) [4].
وقاعه المساواة الانسانية في القيم الإنسانية جديرة بان ترسي نقطه الانطلاق لأية سياسة خارجية ، فلا يحجب حق اساسي لإنسان بحجه النسبية الثقافية ، ولا يغشي عقل الادمي باستعمال خصوصيه الثقافة لانتهاك حقوق هي عالميه بطبوعها ، داخل اميركا او خارجها .
وفي رسم السياسة الخارجية ، تدعم رفض القيم الحقوقية المشتركية ونظريه النسبية الثقافية عقيده صدم الحضارات[5] : وفي هذه المركب النظري تتحول النسبة الثقافية تضارب بين القيم الغربية المعاصرة وعميق الرواسب الحضارات في سائر العالم . فطالما ان نمط التغير في الحضارات نمط بطيء للغاية ، بحسب النظرية ، من الافضل ترك كل دولة وكل منطقه على دابر حضارتها وان كانت الحكومة في هذه الدولة او تلك المنطقة تنتهك جميع المبادئ الديمقراطية والحقوق الإنسانية الأساسية . هذا المركب يعني عمليا الدفاع عن مقولتي ضرورة ترك الشعب الصيني لاي اقتصاص وقسوة تختاره الحكومة الصينية له ، فهذا ملازم الحضارة الصينية او ((ضرورة ترك الرجال المسلمين متسلطين على نسائهم ، فهذا من صلب شريعتهم المقدسة)).

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة