فوزي عبد الرحيم السعداوي
على الرغم من تجدد أحداث العراق اليومية فانا لا أكف عن الكتابة عن أحداث تاريخ العراق القريب والذي قد لا يمثل مصدر اهتمام للغالبية ناهيك عن الشباب الذين لم يعيشوا تلك الفترة ولا يوجد لديهم سبب لاستعادتها.
انا أرى من الضروري إلقاء الضوء عليها أولا لانها السبب فيما نحن فيه الآن وثانيا أن فيها دروسا وعبر خطيرة لم يتم اعتبارها والاستفادة منها، قد يرى بعض ممن لايعرفني منذ وقت كافي انني أكتب في هذا الموضوع لاني لا أملك الخيال والخزين اللازم للكتابة في موضوعات أخرى وهذا أمر غير صحيح يدركه كل من يعرفني واطلع على كتاباتي.
هناك تساؤل يدور منذ عقود بين الشيوعيين واليساريين عن سبب احجام الحزب الشيوعي عن محاولة الاستيلاء على السلطة في ظروف مؤاتية شعبيا وانسداد سياسي يجعل ذلك الخيار الوحيد وهو ماكان عليه الحال بعد تموز٥٩ حين شنت سلطة قاسم حملة على الشيوعيين وضيقت عليهم وحرمتهم من أبسط هامش للحرية فاسحة المجال في الوقت نفسه للقوى المضادة لحرية الحركة بما يشي بمجزرة مقبلة فلماذا لم يقدم الحزب على محاولة استلام السلطة إنقاذا لنفسه من مصير كان قد بدا يتوضح.
في ٥ تموز ٥٩ وصل لأسماع قيادة الحزب الشيوعي وجود تحرك يقوم به بعض الضباط الشيوعيين للقيام بانقلاب عسكري ضد حكم الزعيم قاسم، فورا قامت القيادة باستدعاء الأسماء المهمة من الضباط والضغط عليها لإلغاء فكرة الانقلاب
أعلم قاسم بالمحاولة واعتقل العديد من الضباط وحقق معهم بنفسه وعد الحزب الشيوعي مسؤولا عنها، وتلك كانت بداية سياسته ضد الشيوعيين وقد كرستها أحداث كركوك في ١٤ تموز ٥٩ حيث ضيقت السلطة على الحزب الشيوعي وأخذت تعتقل نشطائه.
في جلسة غداء عادية في وزارة الدفاع ضمت معظم قادة الفرق ومساعدي الزعيم قاسم، تحدث الأخير قائلا اني قررت ان لا يبقي شيوعي معي واذا كان هناك من هو شيوعي فعليه أن يترك الحزب الشيوعي والا يترك منصبه، ساد صمت لم يقطعه سوى صوت الزعيم جلال الأوقاتي قائد القوة الجوية مخاطبا الزعيم قاسم انني شيوعي ولن أترك الحزب ولن أتخلى عن منصبي طوعا فان كنت تريد احلني على التقاعد.
غضب قاسم وأشاح بوجهه عن الحضور وبدا بعض أصحاب الرتب العالية بالتوسط ومحاولة تقريب وجهتي نظرهما حيث توصل الأوقاتي لحل طرحه على الزعيم قاسم يقضي بأن يواصل جلال عمله بمنصب قائدا للقوة الجوية دون ان يترك الحزب الشيوعي مقابل كلمة شرف انه في حال التناقض بين واجبي العسكري ومعتقدي الحزبي فإني سأختار الواجب العسكري، وقد رحب قاسم بالاقتراح وانتهى الموضوع.
في كتابه (المقايضة) يشير نجم محمود إلى ان اتفاقا تم بين الغرب والاتحاد السوفياتي بمقايضة بغداد ببرلين كان ذلك في عز الحديث عن انقلاب يساري في بغداد وإذ لا توجد لدينا دلائل ملموسة فإننا لن نستخدم ذلك دليلا في منشورنا لكننا لا نستطيع تجاهل معارضة موسكو لمحاولة الحزب الشيوعي للانقلاب على قاسم وهي المحاولة التي بدأ بها سلام عادل وانتهت به منفيا في موسكو.
لم يكن الحزب منسجما في موقفه من حكم قاسم والحقيقة أن قيادة الحزب كانت مشتته في آراءها في مسائل كثيرة منها قراءة الوضع السياسي فلم يك والحال هذا متوقعا اتخاذ قرار بهذه الخطورة وعلى الرغم من الحديث المتواتر في وقتها عن الظرف المواتي للشيوعيين للانقلاب على قاسم فان ذلك لم يك واقعيا ابدا أيضا، ان تنظيم الحزب الشيوعي العسكري محدود ولا يوجد فيه ضباط في وحدات فعالة يقابل ذلك ضباط من مختلف الاتجاهات يسيطرون على الوحدات الفعالة وبعضهم ضد حكم قاسم لكنهم كلهم موحدون ضد الشيوعيين وخاصة لو تقدم الشيوعيون باتجاه السلطة.
وقد رأينا ذلك في ٨ شباط حين حجب أحد مناصري قاسم دعمه وهو القادر على حسم الوضع فقط لأن الأمور تطورت بحيث أصبح النزاع بين البعثيين والشيوعيين. ولقد أظهرت الأحداث مثل حركة الشواف ومحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم ثم أخيرا انقلاب شباط محدودية قوة الحزب الشيوعي ولامحدودية أعدائه المتنوعين ولكنهم القادرين على التجمع والتنسيق بينهم في موضوع التصدي للشيوعيين، لذلك فإن الحديث عن ظروف مواتية تنظيميا هو أمر غير دقيق حتى في عز قوة الحزب التنظيمية ففي محاولة الشواف الانقلابية والتي جرت في أفضل ظروف الحزب الشيوعي بدا واضحا الحجم الكبير للقوى المعادية للشيوعية في الجيش، وفي محاولة اغتيال قاسم حيث جرى الحديث عن محاولة الشيوعيين السيطرة على الوضع على الأقل لدرء خطر سيطرة القوى القومية والرجعية على الأوضاع بغياب الزعيم قاسم فان تحركات متعددة الخلفيات قد جرت لتطويق التحرك الشيوعي الدفاعي فقد تحرك نجيب الربيعي رئيس مجلس السيادة محاولا ملأ فراغ غياب قاسم وتحرك أحمد صالح العبدي لحماية النظام وتحرك إسماعيل العارف باللواء ٢٥ والذي يقع مقره في الوشاش للسيطرة على بغداد خوفا من تحرك الضابط الشيوعي هاشم عبد الجبار آمر اللواء العشرين وهنا أود أن أذكر ان معلوماتي مستقاة من مذكرات إسماعيل العارف الذي يعد نموذجا لمساعدي الزعيم الذين تجمعهم فكرة العداء للشيوعية لدرجة التعاون مع البعث.
كوفيء العارف بعد ٨ شباط وعين سفيرا اما النموذج الصارخ الآخر فهو محسن الرفيعي مدير الاستخبارات العسكرية الذي كان قد عينه بالأساس رفعت حاج سري معاونا له وقد جرى حديث متواتر عن تواطؤه مع انقلابيي شباط.
المهم انه شغل عدة مناصب بعد ٨ شباط والأمر ذاته مع جاسم كاظم العزاوي السكرتير الصحفي لقاسم والذي عين وزيرا بعد ٨ شباط فما هي الخدمات التي قدمها مقابل ذلك؟.
اما الظروف المواتية شعبيا فبرغم أن الحزب الشيوعي حظي بدعم شعبي منقطع النظير خصوصا في العام ٥٩ فقد أثبتت الأحداث ان هذا الجمهور أو جزء كبير منه لم يك يتحرك وفق رغبات الحزب بل وفق أجندة ومحركات أخرى أدت في بعض الأحيان لكوارث حملت للحزب الذي ظل يعاني من عواقبها. قلنا اننا لن نستخدم كتاب المقايضة كدليل لتثبيت وجهة نظرنا لكن مسألة معارضة الاتحاد السوفياتي الانقلاب على قاسم يعرفها العديد من القيادات الشيوعية وهو رأي كان على الحزب الشيوعي اعتباره لما له من عواقب عليه ولعل نفي سلام عادل إلى موسكو كانت خلفيته محاولة سلام عادل القيام بمحاولة للانقلاب على قاسم، كان رأي السوفيات كما قرات مرة ان وجود حكم شيوعي في العراق سيوجب على الاتحاد السوفياتي حمايته وهي مهمة صعبه لانها ستؤدي للاحتكاك بالولايات المتحدة