يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 47
حوارات مع جرجيس فتح الله
مع هذا كله فأن نوري السعيد لم يكن (عبدا) للغرب كما صوره المؤرخون. بل كان عبدا لنوري السعيد نفسه ، لخياله السياسي وهناك مواقف كان فيها يتحدى الانكليز ويقص عليهم مضاجعهم. ولا اريد ان اذكر تلك التي وقفها في المرحلة السياسية الاولى له. وقد اتى الى ذكرها الكتاب قبلي ولكني سأذكر بعضا مما اغفلوه في المرحلة الثانية.
في العام 1953 او بعده او نحوه هدد السعيد شركات النفط والحكومة البريطانية برفع الخلاف الناشب حول حصص العراق من عائدات النفط الى المحاكم البريطانية والاستعانة برجال القانون اليساريين الانكليز في رفع الدعوى. وسأل عن اشدهم صلابة فأشير عليه بالمحامي الشهير (د.ن بريت D.N prat) عضو مجلس العموم البريطاني المستقل الماركسي العقيدة. وهو واحد من قلة من المحامين العالميين الذين كانوا يتبرعون للدفاع عن ضحايا الحرية في سائر اقطار العالم . والكاتب البارع الذي دأب على تبرير مواقف الاتحاد السوفياتي من ديمقراطيات الغرب في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الاخيرة وبعدها وخلالها. وعرف بصورة خاصة عندما رئس هيئة التحقيق الدولية التي ندبت للتحقيق عن حريق الرايشتاغ وكان قد دبره هتلر في 1936 واتهم به الشيوعيين.
اقول: استقدم (نوري السعيد) هذا القانوني الباقعة فجاء بغداد واحتفى به واحسن نوري استقباله ووضع امامه وبكل ثقة وامانة كل الوثائق المتعلقة بامتيازات النفط حتى السرية منها. ثم هدد البريطانيين به وبالتأميم وقد نصحه بريت به. الى الحد الذي ارغم الشركات على مايريده لا سيما دفع عائدات العراق على اساس الذهب. وبه كسب للعراق تلك الملايين التي كانت الدولة بأمس الحاجة اليها لتصبح فيما بعد اساسا لمجلس الاعمار بمشاريعه الهائلة.
وربما كان ذلك في اواسط الخمسينات عندما تلكأت بريطانيا في تزويد الجيش العراقي بالاسلحة الحديثة. كان منه موقف روائي يستحق التسجيل والذكر: استدعى السفير البريطاني وفي لقاء عاصف هدد بقطع كل تعامل تجاري مع بريطانيا والتوجه بالمشتريات الى الولايات المتحدة او الاتحاد السوفياتي ان كلف الامر. ويذكر انه الغى التمثيل الدبلوماسي مع هذه الدولة في وقت سابق.
وقد لا يكون خروجا عن السياق ونحن نمر باعياد (نوروز) وكان نوري قد منع في اواخر الاربعينات الاحتفال به رسميا. الا انه عاد فالغى امر منعه عندما اعلم بأنه عيد قومي فتم الاحتفال به رسميا في كل من اربيل وسليمانية بنوع خاص ولاول مرة تحت الرعاية الرسمية. واذكر ايضا ان العلامة الاستاذ توفيق وهبي تجرأ حينذاك على كتابة بحث طريف للغاية عن العيد نشر في مجلة سومر. الا ان الحكومات التالية منعت اقامة المهرجانات رسميا بمناسبته. مع هذا بدا كما وصفه منافسوه على الحكم. وكما رأه اعداؤه وكما كنا نحن رواد الديمقراطية نراه واحدا ممن حاول القضاء على براعم الديمقراطية بعزم وقوة وغلاظة . وهو بذلك يعبر عن وجهة نظره الخاصة وليس بدفع من قوى خارجية او خدمة للانكليز خالصة. والا فكيف نغفر له قيامه في العام 1954 بالغاء امتياز اكثر من 450 صحيفة و مجلة ونشرة دورية وغلق عشرات من النقابات والنوادي والجمعيات؟ واذا شئنا تغليب حسن النية على العمى السياسي والعناد في التزام الفكرة الخاصة . فسيلوح لنا (نوري السعيد) ذلك السياسي الحريص على مستقبل بلاده اكثر من حرصه على سمعته ومركزه وشهرته وطمعه بالسلطة.
س: عرف السعيد بمزايا شخصية واثروا عنه الوفاء لأصدقائه والاحسان والالتزام بشرف الكلمة في علاقاته الشخصية والعامة. ما قولكم؟
لم تتح لمحام بعيد عن العاصمة وصحافي محلي مثلي الا مراجعة له دامت بضع دقائق في قضية قرار اتخذه ايام كان رئيسا للوزراء في العام 1956 بخصوص منع تصدير الاغنام الى سورية حرصا على ابقاء اسعار اللحوم بمستواها. ولم يقتض مني اقناعه بخطأ القرار غير دقائق. على اني لاحظت كما لاحظ غيري رقعة مخطوطة معلقة على الحائط فوق رأسه بهذا المثل او القول المأثور :”اتق شر من احسنت اليه” لم يمر وقت طويل ليزيلها الزمن من ذاكرتي. تذكرتها باثنين ركن اليهما (نوري السعيد) ومنحهما ثقته اولهما العقيد (وصفي طاهر) مرافقه الخاص الذي قاد مفرزة الهجوم على منزله وتولى امر تعقيبه في شوارع بغداد في 15 تموز 1958 للقبض عليه ولولاه ما كان يضمن ترقياته وخدمة مؤقته لانه لم يكن من خريجي الكلية العسكرية بالعراق.
ثانيهما: الوزير (خليل كنه) الذي كان (السعيد) كما يعلم الجميع ولي نعمته وواحدا من انصاره الموثوقين. صاهره ، ولصق به وروج لسياسته وتابعه دونما تحفظ وبلا حدود ، حرص دائما ان يبدو كالعاشق الوله المفتون ببعد نظر سيده وولي نعمته. وكان احد من وزراء حكومة السعيد في العام 1954- التي وجهت بمراسيمها تلك الضربة الصاعقة للحريات العامة ، واعتدت على المبادئ الديمقراطية وشدت النكير على حقوق التعبير والرأي- وفي العام 1966 عندما اصدر خليل كنه كتاب ذكرياته “العراق امسه وغده” . لم يبق مثلبة ونقيصة الا ورمى سيده بها ، مسندا اليه كل ما نال العراق من كوارث.
طالعت كتابه هذا وما ان بلغت به مرحلة الشتم والنقد حتى تذكرت رقعة نوري السعيد التي رأيتها على جدار مكتبة “اتق شر من احسنت اليه”.
رشيد عالي الكيلاني
س: والان الى الشق الثاني من سؤالنا الاصلي. وهو الجزء الخاص برشيد عالي الكيلاني. لعلكم ادركتم سر انتقائنا هذا السياسي من دون سائر رؤساء الحكومات السابقين بعد (السعيد). فهذه شخصية تباينت فيها اراء الساسة معاصريه مع اراء كتاب التاريخ الذين تحدثوا عن اعماله ولا سيما دوره المركزي في حركة مايس 1941 التي عرقت بحركة رشيد عالي ايضا اما وانكم قد جبتم افاقا من تاريخ بلادنا الحديث ونقبتم في زواياه لا سيما تلك التي حفلت بالمفاجآت ، وزاحمتها الزوابع والاعاصير بالنوائب والكوارث ، فلا شك في ان لديكم عن هذا السياسي ما قد يعتبر جديدا.
الغريب ، ان هذا الرجل لم ينل ذرة عطف ولم يذكره بأي خير كل زملائه رجال الحكم في العراق حين تطرقوا اليه في مذاكراتهم ولم اجد في كل الكتب التاريخية والسياسية التي الفت حول ادواره وحياته العامة او نوهت بذكره عرضا في واقعة معينة- من انتقص عملا له ، او نشاطا سياسيا او رماه بمنقصة او عيب. وهم في نظري صنفان: صنف قومي يعتبر رشيد عالي رمزا قوميا وبمنزلة الصدر في روادها الاوائل بوقفاته ضد النفوذ الانكليزي وبقمعة ما دعي بتمرد الاشوريين ، وتزعمه حركة مايس الموالية للمحور. وصنف اخر ويمكن وضعهم في قائمة اليسار او التقدمية ، تراهم يهابون ولوج باب عود القراء عليها ويتهيبون من كشف الوجه الاخر للكيلاني. ومعظمهم يعرفه كما اعرفه لكنهم يضطرون الى مجاراة الاخرين الاوائل ولا ادري لماذا ، اهو خوف ام تقية؟ وبهذا تتحقق الحذيعة الكبرى ويرسم للتاريخ صورة بعيدة عن الواقع جدا. صارحني كثير من قراء هذه الحلقات بأن ما يقرأن من احاديث لي فيها ، يمثل نهجا غير مألوف في دراسة الاحداث التاريخية وفي النظر الى صانعي تلك الاحداث. وهذا ليس الواقع فأنا اكتب واتحدث بما يجب ان يكون المألوف. وغير المألوف هو ما عودوا على قراءته مع الاسف وانا انما استدرك ما غفلوا عنه او تغافلوا لا ما قصروا دونه. وانا لا اخترع احداثا اختراعا وهي بمتناول اليد دوما وانما اتصيدها. ولا املك من المعلومات اكثر مما لا يملكون وكلنا يغترف من معين واحد والمصادر مبذولة للجميع . لكني اختلف نهجا ، فأرتاد ساحات صغيرة لأنفذ منها الى الميدان الواسع الرئيس. واسلك انفاقا ضيقة لتقودني الى الطريق الارحب وغيري يبدأ بالكبير فلا ينتبه للصغير .
والساحات الصغيرة والانفاق الضيقة هي مادة التاريخ الاصلية والحوض الكبير هو حصيلة تجمع القدرات ، وبالطرق التقليدية التي انبذها ، غمطت حقوق كثيرين وكسب كثيرون سمعة وفضلا لا يستحقونهما واه ثم اه لو نهض مفكرونا ومؤرخونا وحملة القلم فينا بما تقتضيه الذمة والضمير فيهم واقتصدوا قليلا في تمجيد ابطال الكوارث والمأسي والمحن ووضعوا حدا لمحاولات صفيقة في تغطية اساءات اجترحها اولاء (الابطال) بحق البلاد ومواطنيها. والكف عن تبرير الجرائم المشهودة لا سيما تلك التي ترتكب تحت زعم محاربة الامبريالية والاستعمار. او تلك التي يشتم منها روح العداء للانكليز تبريرا وتغطية لسوء الحكم والاستبداد والعبث بالحريات وخرق حرمة القانون.
عندما تقضي امانة القول من الكاتب او المؤرخ الخروج من دائرة الصمت او خرق حجاب الصوت كما يقال. بمحاولة لتغيير ما جرى مجرى المسلمات التي لا تقبل طعنا ، بدا في اغلب الاحيان – ذلك الجدي الاسود بين الخراف البيض فيعاقب ويهان وتتكالب عليه كلاب هاتكي الاعراض بالتهم والطعون ولا عجب ان كانت الاغلبية سراقا فأن الامانة ستعاقب بوصفها جريمة.
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012