تنمية الاقتصاد العراقي بالتصنيع وتنويع الإنتاج

د. أحمد ابريهي علي

توطئة ومؤشرات اساسية
النتائج المعروضة في هذه المقالة خلاصة بحث عن نمو الاقتصاد العراقي للأمد البعيد (1)، وذلك بعد مراجعة انماط التطور الاقتصادي على مستوى العالم ومعايير التنمية الاقتصادية الناجحة. وعبر اعتماد ضوابط كمية لمحاكاة مسارات بديلة للاستثمار والنمو، للتعرف على امكانيات المستقبل على فرض انسجام السياسة والإدارة الاقتصادية مع الشروط الملائمة لتسريع النمو. وأخذا بالاعتبار الوضع الحالي للمورد النفطي، واحتمالات سوق النفط والقدرات الإنتاجية غير النفطية في العراق. وبموجب السيناريو الذي استقرت عليه تجربة المحاكاة يكون المعدل السنوي لنمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي 8.04% ولمجموع الاقتصاد بضمنه النفط الخام 6.81%.
ويقتضي ذلك تغيرا جوهريا في بنية الإنتاج، ومن خلال التنمية المعجلة للأنشطة السلعية غير النفطية، وبالارتكاز على التصنيع. مع إزالة عقبات بنيوية متمثلة بالقدرة التنافسية الدولية الواطئة للعراق، ورفع كفاءة برامج الاستثمار العام، وبعث الحيوية والتوجه التنموي في الجهاز البيروقراطي.
وعلى الرغم من ان تزايد التنافس العولمي والتغير التكنولوجي قد جعلا التصنيع صعبا في العراق لكنه لا توجد سبل اخرى للازدهار. بل ان تأجيل المباشرة بالتصنيع الموسّع يفاقم مشكلات تمويل الأنفاق العام في الامد المتوسط؛ ويؤدي، ايضا، الى دفع العراق نحو قيد ميزان المدفوعات لعدم كفاية موارد العملة الأجنبية من صادرات النفط؛ فضلا عن تجذر الأنماط الهامشية للتشغيل، والانفصام بين نظام التعليم وبنية الطلب على القوى العاملة.
ومن المعلوم ان قوام النمو وفق المسار المشار اليه هو الجهد الاستثماري بدلالة تكوين رأس المال الثابت المحلي الإجمالي في النفط الخام والقطاع غير النفطي، وهو في الأخير 36% من ناتجه المحلي الإجمالي بالمتوسط، وعلى المستوى الكلي يصل تدريجيا الى 27% من الناتج المحلي الإجمالي. ولأن تغيير بنية الإنتاج لا يكون دون التحكم بالتخصيص القطاعي للاستثمار، الذي يبقى الجزء الأكبر منه حكوميا في الأمد المنظور، لذا فإن التصميم المحكم للموازنة الرأسمالية للقطاع العام، واختيار التكنولوجيا والسيطرة على مجرى التكاليف بدلالة الكلف المعيارية، هذه العناصر الأساسية في الإدارة الاقتصادية لها ابلغ الأثر في إصابة الهدف.
ومن جهة أخرى لا بد من اعتماد التحليل المالي-الاقتصادي المتقن لجميع المقترحات، من البرامج والمشاريع، وعلى اساس معدلات خصم اجتماعي تعبر عنها معدلات العائد الداخلي المعتمدة في القطاعات، وحسب سياسات توزيع الدخل والتمويل و/او التحليل على اساس الكلفة – الفاعلية Cost Effectiveness، والتي تعني أدنى التكاليف لإحراز الأهداف المعرّفة كما ونوعا.
السيناريو يساعد على اللحاق بالعالم المتقدم، حيث سيرتفع متوسط الناتج المحلي للفرد، بأسعار الصرف الاعتيادية، من 48 بالمائة من المتوسط العالمي في سنة البداية الى 76 بالمائة في الأقل، وقد تصل الى 89 بالمائة، في سنة الهدف تبعا لفرضيتين لمعدل نمو السكان. وهذا المؤشر يدل على الاهمية الحاسمة لتعجيل النمو لأن متوسط الدخل للفرد في العالم هو 18 بالمائة من المستوى الأمريكي في سنة الابتداء.
ان الحاجة الماسة لإعادة الإعمار، واستكمال وتطوير البناء التحتي والخدمات العامة، وتشغيل القوى العاملة، ومكافحة الفقر وإنصاف المحرومين… كلها تتطلب تطوير القدرات الاقتصادية الوطنية عبر مواصلة تنمية قطاعات الإنتاج السلعي والتصنيع بوجه خاص.
1. النفط الخام وموارد العملة الأجنبية وتمويل الإنفاق العام:
يقدر نمو كمية النفط المصدر بمعدل 2.226 بالمائة سنويا، لتحقيق الهدف المقترح لعام 2040 بمقدار 6 مليون برميل يوميا. اما سعر النفط الذي احتسبت بموجبه قيم الإنتاج والصادرات فهو السعر الحقيقي بالقوة الشرائية لعام 2017 ويتحرك بمعدل سنوي مقداره 1.359 بالمائة، مستنتج من الاتجاه الزمني للسعر الذي كشفت عنه بيانات المدة 1972-2016.
أي ان هذه الزيادة تضاف عليها نسب التضخم وأثر تغيرات اسعار الصرف للعملات الرئيسية إزاء الدولار الذي يسعّر به نفط العراق والعالم. ومن المعلوم ان العراق، حتى نهاية عام 2017، لا يصنّع محليا من النفط الخام ما يكفي لتلبية كل الطلب على المنتجات بيد ان السيناريو يفترض 2 مليون برميل يوميا عام 2040 تصنّع محليا من النفط الخام لتلبية كل الطلب آنذاك. وبإضافة هدف التصدير 6 مليون برميل يوميا يصل النفط المنتج نحو 8 مليون برميل يوميا عام 2040.
ومن الحقائق الأساسية في اقتصاد العالم المعاصر ان الاستيرادات والأنفاق الحكومي تتزايد نسبتهما الى الناتج المحلي الإجمالي. وتبعا لذلك من المرجح ان يتطلب التوازن الخارجي، في سنة الهدف، عملة اجنبية من غير النفط الخام لا تقل عن 133 بالمائة من قيمة صادرات النفط وقد تتجاوز 200 بالمائة منها عام 2040، ما يعني اهمية التلازم بين التنمية الاقتصادية وإقامة طاقات انتاجية للتصدير اغلبها من الصناعة التحويلية. وتلك المؤشرات مع معدل نمو للناتج الكلي حسب السيناريو وهو 6.81 بالمائة سنويا. اما الحجم التوازني للإيرادات غير النفطية فمن المستبعد ان تكون دون 150 بالمائة من ايرادات النفط سنة الهدف. بتعبير آخر تقتضي سلامة الاقتصاد الوطني العراقي، في الأمد البعيد، التزام استراتيجية للتنمية الاقتصادية تضمن توسيع موارد الصادرات ومصادر تمويل الأنفاق العام بعلاقة محكمة مع التصنيع وتنويع الإنتاج السلعي.
2. النشاط الاستثماري:
يتطلب النمو حجوم استثمارية، تكوين رأسمالي ثابت، بحوالي 2800 مليار دولار بأسعار 2017، للسنوات 2018 – 2040. وان توزيع مهام الاستثمار بين الدولة والقطاع الخاص تابعة لخصائص الاقتصاد بالإضافة الى مسؤولية الدولة عن البناء التحتي والخدمات العامة وقطاع الطاقة من النفط والغاز ومنتجاتهما والكهرباء. وفي السنوات الأخيرة تعثّر الاستثمار الممول من الموازنة العامة لعجز الإيرادات، والاستثمار الخاص ضعيف ويتركز في انشطة النقل والتجارة والسكن واخرى خدمية. وتدريجيا يقترب الاسهام المتوقع للقطاع العام في مجموع الاستثمار من 60 بالمائة، بصيغ التمويل المركزية وغيرها، لكن تقسيم العمل بين الدولة والقطاع الخاص لا يتدخل في مسار النمو حسب هذا السيناريو، وقد تهتم به دراسة اخرى.
الاستثمار المبين في هذا السيناريو يفترض وجود قدرات لإنجاز التشييد وتطوير البناء التحتي ولإقامة المنظومات المعقدة تقنيا في الطاقة والانتاج الصناعي. والمشكلة في عدم تبلور منحى في التفكير يقدم دليلا يقود عملية تكوين منشآت او شركات قادرة على التشييد وتطوير البناء التحتي لضمان انطلاق واستمرار الجهد الاستثماري الذي يفترضه هذا السيناريو.
ولغياب تلك القدرات، مع تخلف ادارة المشاريع العامة والرقابة الهندسية والكلفوية عليها، كانت النتيجة ضياع فرصة انتفاع التنمية المنتظرة من ايرادات النفط، في صعودها بين عامي 2004 و2013، مثلما ضيّعت الحروب فرصة الازدهار النفطي الأولى في سبعينات القرن الماضي. ان معدلات النمو في السيناريو الرئيسي وعلاقاتها بمتغيرات راس المال والناتج والعمل تُضمر معدلات عائد على الاستثمار، وهي الدليل الذي يقود تصميم البرامج وتقييم وانتقاء المشاريع، وبذلك هي روابط بين الجهد الاستثماري والنمو.
وقدمت هذه المؤشرات بدلالة معدلات العائد الداخلي للمستثمر وهي متفاوتة تبعا لتوزيع الدخل بين تعويضات المشتغلين والفائض من جهة ومعدلات الضريبة من صافي الفائض من جهة اخرى. وعندما تصل تعويضات المشتغلين 60 بالمائة من صافي القيمة المضافة والضريبة 35 بالمائة من صافي الفائض فإن معدل العائد الداخلي للمستثمر 10.75 بالمائة للمشروع النمطي الذي عمره الإنتاجي 25 سنة. اما عندما تنخفض تعويضات المشتغلين الى 40 بالمائة والضريبة 15 بالمئة، بنفس التعريف آنفا، يرتفع معدل العائد الداخلي الى 18.75 بالمائة.
ولذا تتطلب التنمية التخلي عن الصورة الشائعة، للمشروع الاستثماري في العراق وخلاصتها انه عبء آخر على اقتصاد تعثرت تنميته. فالمشروع الذي لا يسهم في تمويل الموازنة العامة والصادرات من غير النفط الخام، ويَعتمد في نفس الوقت على اعانات صريحة ومضمرة، هو نموذج لسياسة استثمارية تعطل الأدوات المعوّل عليها للنهوض.
3. بنية القطاع غير النفطي في سياق النمو:
عندما تتصرف الحكومة بالمورد النفطي لتمويل إنفاق الموازنة العامة يصبح المستوى الكلي للطلب على السلع والخدمات مستقلا الى حد كبير عن حجم الاقتصاد، من غير النفط الخام. وتنشأ سلسلة لا تنتهي من دورات الإنفاق –الطلب الكلي– العرض تتدخل فيها قدرة العراق على الاستيراد ممولا من مورد العملة الأجنبية لصادرات النفط. وينسجم سعر الصرف المنخفض للعملة الأجنبية والمتعارف عليه في العراق مع الوفرة النسبية لمورد النفط بعيدا عن بنية التكاليف المحلية للإنتاج وشروط التنافس الدولي.
وصار من الواضح تماما بان التحول نحو الاقتصاد الطبيعي الذي يماثل، في تشكيلته القطاعية والعلاقات التقنية والتنظيمية للإنتاج، النمط السائد في العالم لنفس المرحلة من التطور هو السبيل لإخراج العراق من مأزق القيد النفطي على حركته. ولتوليد ما يكفي من فرص العمل ومباشرة التصدير من غير النفط الخام وتمويل الموازنة العامة من مصادر مستقلة عن تقلبات النفط في سوقه الدولية.
ومن أبرز سمات تطور اقتصاد العراق عبر ما يقارب سبعة عقود مضت ان الزراعة والصناعة التحويلية مجتمعة لا تتناسب مع الحجم الكبير للقطاعات الأخرى. وتفيد بيانات السنوات 2009 – 2015 بالمتوسط ان الزراعة والصناعة التحويلية تسهم بنسبة 7.1 بالمائة من كل الناتج المحلي الإجمالي، و12.9 بالمائة من الاقتصاد غير النفطي. والمؤشر الأخير هو المهم لأن المشكلة تجاوزت مجرد الاعتماد على النفط بل اعادة صياغة الاقتصاد بصفة مستمرة بما يكرس استمرار هذا الاعتماد.
ولقد استرشدت التحولات المنشودة بالأنماط المعروفة للتغيرات البنيوية في العالم ارتباطا بمتوسط الدخل للفرد والإنتاجية ومن أبرزها تزايد الاسهام النسبي للصناعة التحويلية وصولا الى نقطة انقلاب بعد اجتياز الاقتصاد عتبة المرحلة المتقدمة. مع محاولة توظيف النمو المرتفع نسبيا للقطاع غير النفطي، في السيناريو، بحيث يمكن اجراء التعديل دون التضييق على انشطة التوزيع والخدمات كثيرا. وبذلك يتزايد الناتج غير النفطي من 57 بالمائة الى حوالي 71 بالمائة من مجموع الناتج المحلي الإجمالي، في سنة الهدف؛ وقطاعات السلع المتاجر بها من غير النفط الخام تتزايد من 7.8 بالمائة الى 20.8 بالمائة في سنة الهدف وهي الزراعة والتعدين غير النفطي والصناعة التحويلية. ومجموع قطاعات السلع من غير النفط الخام ترتفع اهميتها من 15.6 بالمائة الى 30.7 بالمائة من مجموع الناتج المحلي الإجمالي؛ وتنخفض اهمية انشطة التوزيع والخدمات قليلا من 41.5 الى 40.7 بالمائة. بمعنى ان الزيادة الكبيرة في الناتج غير النفطي على حساب النفط الخام استأثرت بها القطاعات المنتجة للسلع القابلة للتصدير وهو الهدف.
ولقد ظهرت في السنوات الأخيرة صعوبات جديدة تواجه الدول التي تأخرت في مباشرة التصنيع الموسّع بعد اجتياح الدول الناهضة والمصنّعة حديثا في آسيا اسواق العالم بتنافسية قوية. وايضا لارتفاع الإنتاجية وانخفاض التكاليف بحيث تحوّلت حركة الأسعار النسبية لغير صالح الصناعة التحويلية بل نحو قطاعات أخرى. هذه الصعوبات والتغيرات العميقة في اقتصاد العالم وضعت العراق امام تحديات جسيمة وانحسار تدريجي في مساحة الاختيار. بيد ان تأجيل المباشرة بالنهضة الصناعية سوف يضيف المزيد من العقبات والتي ربما تحبس اقتصاد العراق في حلقة مفرغة.
من المعلوم ان حوالي 66 بالمائة من صادرات السلع في العالم من الصناعة التحويلية، وفي دول آسيا 80 بالمائة من صادرات السلع للصناعة التحويلية، ولذلك لا بد من مراعاة هذا الحقيقة في سياسات التنويع والتعديل البنيوي للاقتصاد العراقي.
ونقترح ان تكون نصف الصادرات غير النفطية، المستهدفة، من الزراعة والتعدين والاستخراج غير النفطي والصناعة التحويلية التي تقوم على النفط والغاز، والنصف الثاني من الصناعات التحويلية متوسطة وعالية المستوى التكنولوجي. مما يساعد على تلك التحولات زيادة الحجم النسبي للقطاع غير النفطي الى 71.4 بالمائة عام 2040، الى جانب انخفاض الثقل النسبي لأنشطة التوزيع والخدمات من 72.7 بالمائة من الاقتصاد غير النفطي عام 2017 الى 57 بالمائة عام 2040. وان التحول التدريجي نحو الإنتاج السلعي مع تكنولوجيا متقدمة، وتنظيم أرقى للعمليات في مؤسسات الإنتاج الكبير، سوف ينعكس ايجابيا على تسريع التعلم من خلال العمل ويسهم في تغيير ايجابي عميق في المجتمع والثقافة والسياسة.
خاتمة:
جاء هذا السيناريو بعد دراسات مهدت له، ومحاولات سابقة، ليرسم مسارا لنمو الاقتصاد العراقي، وتحوله تدريجيا نحو قاعدة انتاجية بديلة عن النفط الخام. ومواصلة اللحاق بالعالم المتقدم، وهي عملية تتطلب تقليص متواصل لفجوة الإنتاجية ومتوسط الدخل للفرد، واستكمال وتطوير البناء التحتي، وتبلور نمط مغاير لتشغيل القوى العاملة، وصيغ أكثر فاعلية لتنظيم الإنتاج للانتفاع من وفورات الحجم الكبير والتكنولوجيا الأحدث.
وتوصل الباحث الى امكانية تغيير بنية الإنتاج السلعي، دون النفط الخام، بكيفية تستجيب لمتطلبات تنمية الصادرات غير النفطية، وعُرضَت، بدلالة الناتج المحلي الإجمالي، البنية القطاعية المناسبة نهاية مدة السيناريو مع مراحل الانتقال التدريجي.

مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة