الصباح الجديد – وكالات:
تتصدّى السينما الأميركية، غالبًا، لعنفٍ قائمٍ في المجتمع الأميركي. تحاول تبيان أحواله ومكوّناته وأغراضه. تلتقط نبضه. ترافق مرتكبيه في حيواتهم وأفكارهم وهواجسهم وتأثّراتهم. تتقصّى سِيَرهم وانفعالاتهم وارتباطاتهم بمحيطهم. تعاين بلاغة التطوّر التقني في الحياة اليومية ومفاعيلها، وانعدام الحدود (الكون قرية صغيرة)، واتّساع الآفاق (المعرفية وغير المعرفية)، وانتشار التأثير والتأثر بأسرع من البرق (وسائل التواصل الاجتماعي وشبيهاتها).
هذه سينما تبغي إنتاجًا يُساجِل، لا أعمالاً تتعاطى مع العنف بكونه جاذبًا لأرباحٍ مالية، إذْ يرى صانعوا هذه الأخيرة في التشويق والأكشن والحركة، المُقدَّمة كلّها بشكلٍ مجاني أو اعتيادي (في الأقل)، مصدرًا للربح، من دون أدنى تنبّه إلى معطياته وتقديماته.
هذا كلّه نقيض تلك السينما السجالية، غير المعنيّة بتمجيد العنف أو تجميله، بل بتشريحه وقراءته، وسرد حالاته ومساراته ومصائر فاعليه. هذه سينما غير ذاهبةٍ في حيويتها إلى تحليلٍ سيكولوجي أو سوسيولوجي أو أخلاقي، بالمعنى العلميّ الصرف، لاهتمامها بالفرد صانع العنف، وبالمحيط المؤثّر فيه، وإنْ تستخدم ـ في خلفية المشهد السينمائي ـ السيكولوجيا والسوسيولوجيا وعلم الأخلاق، وأنماط المعرفة الأخرى، كمُعينٍ لتبيان الفرد ومحيطه، من دون أن تضع هذا في واجهة الحبكة.
انها سينما غير مكترثة بتحليلٍ علمي أو بتأريخ أرشيفي، بل باشتغال سينمائي بحت. سينما تكتفي بنزرٍ يسير من عنف الواقع، كي تقول شيئًا عنه. تمتنع عن التحريض، لأنها غير معنيّة به (في مقابل أفلامٍ «وطنية» أميركية، تمجِّد بطولات وتضحيات بأساليب إيديولوجية شعاراتية نمطية بحتة)، وإنْ تتخطّى أفلامٌ كثيرة جماليات الاشتغال السينمائي، مُقدِّمة العنف باستسهال وتسطيح وتبسيط مجانيّ. السينما المقصودة هنا، هي تلك المنبثقة من وعي ثقافي ومعرفي وجمالي لصانعيها إزاء خرابٍ يعتمل في الاجتماع، فترصد جوانب منه، وهواجس تُفبركه، وتفاصيل تصنعه. لكنها لن تُقدِّم حلولاً، فهي نتاج فني جمالي، وليست تقريرًا أو استفتاءً أو دراسة.
يُهاجِم كثيرون تلك السينما. يتّهمون صانعيها بمسؤولية ارتكاب مراهقين وشبانٍ أعمالَ عنفٍ في واقعٍ يُقيمون فيه. يُضيفون إلى السينما ألعاب الفيديو، وهذا سؤال يتساوى، في الأهميّة، وأسئلة الثقافة والفنون والاجتماع والإعلام والاقتصاد والعلوم الإنسانية. يقولون إن شبكة «إنترنت» ووسائل التواصل الاجتماعي أسبابٌ إضافية، لكنهم يغضبون على أفلامٍ تلتقط «فتات» العنف اليومي في بلاد العالم، لتعاينه بصُوَرٍ جمالية سجالية؛ أو تُصوِّر تمزّقات أفرادٍ في وحشية حروب تخوضها أميركا في بلدانٍ كثيرة؛ أو تحتال على المُباشَر، فتتّهم ـ بشكلٍ مبطّن ـ تفشّي الأسلحة الفردية في المجتمع الأميركي، بحماية الدستور (التعديل الثاني)، وحصانة بعض القوانين، وأفعال جماعات الضغط، وسطوة «الجمعية الوطنية للبنادق».
هذا مختلفٌ تمامًا عن أفلام عنفٍ مجانية، معظمها تجاريّ استهلاكيّ، يختبئ في أوصاف التشويق والأكشن والحركة، مع أن بعضها ـ وإنْ بشكلٍ عابر، أو غير مقصود ربما ـ يمتلك شيئًا من انتقادٍ بصري للعنف وأحواله. رغم ذلك، فإن تحميلَ صناعة السينما الأميركية مسؤولية الخراب داخل المجتمع الأميركي استسهالٌ في مقاربة المسألة، وتسطيحٌ لعناوينها، وتغاضيًا فجًّا عن مأزق الاجتماع والإعلام والثقافة والتربية والاقتصاد في الولايات المتحدة الأميركية. إنه، أيضًا، تعامٍ عن السجال الحادّ الذي تُثيره أفلامٌ كثيرة تُشرِّح العنف، وتُفكِّك عوالم عديدة متعلّقة به، بلغة سينمائية متكاملة.
من «بالب فيكشن»
لكوانتن تارانتينو
بعض منتقدي الأفلام يختار أمثلة، كسِيَر مجرمين متنوّعي الارتكابات. يقول هؤلاء إن أفلامًا عديدة تُقدِّم قتلة بأشكالٍ سينمائية تُؤدّي، غالبًا، إلى تعاطفٍ معهم. هذا غير صحيح. السينما تستقي نصوصها من وقائع وحقائق. تسأل وتفتّش وتعود إلى أرشيفٍ أو ذاكرة. الخط الفاصل بين سرد وقائع وتجميل صورة ربما يكون واهيًا، أو شبه واهٍ. لكن الأصحّ القول إن سرد الوقائع ليس تجميل صورة، بل نقل حقائق. ألا يُمكن تصديق مسألة أنّ لقاتلٍ جانبًا إنسانيًّا ما في شخصيته، تظهر بشكلٍ أو بعلاقةٍ أو ببوحٍ أو بتصرّفٍ، خارج إطار «عالمه الإجراميّ»؟ (لعلم النفس أقوال مفيدة وكثيرة، في هذا المجال).
جمالية السينما أولوية لدى سينمائيين يروون فصولاً من أحوال بيئة واجتماع وأفراد، على مستوى العنف ومشتقّاته. سينمائيون ينقّبون في مفردات العنف وسلوك مرتكبيه، كي يصنعوا أفلامًا تمتلك جمالياتٍ فنية وتقنية ودرامية، وإن يظنّ البعض أن جمالياتٍ كهذه تعني تجميلاً واحتيالاً. جماليات تُشرِّح وتناقش وتوضح، من دون خطابية فجّة، أو أحكام مسبقة، أو تنظيرات خاوية من أي واقعية، ومن دون تقديم حلول.
للسينمائي الأميركي أوليفر ستون (1946)، قولٌ مهمّ: «كيف يُمكن لأحدٍ أن يأخذ علينا فضحنا العنف، عبر مَشَاهد أفلامنا الدرامية، التي يعلم الجميع أنها مُصوَّرة ومُمَثَّلة، بينما لا تكفّ التلفزة عن إتحافنا، كلّ لحظة، بمَشَاهد العنف اليومي الحقيقي»؟ يرتكز ستون ـ «المتّهم» بتجميل العنف والترويج له في أفلام عديدة ـ إلى إحصائيةٍ تُفيد بأن الفتى الأميركي، حين يبلغ 14 عامًا، «يكون قد شاهد، عبر شاشة التلفزيون، مقتل 12 ألف شخص على الأقلّ».
نقاشٌ مفتوح
قول ستون هذا عائدٌ إلى عام 1994، بمناسبة إطلاق العروض التجارية لـ»قتلة بالولادة»، الذي يعتبره نقّاد ومشاهدون كثيرون أنه «أصدق» شهادة سينمائية حقّة عن أحوال خراب أميركي داخلي، وعن أسبابه ومساراته وخلفياته. قولٌ يتزامن مع صدور تقرير بعنوان «يوم عادي من العنف المتلفز» ـ أواخر العام نفسه ـ يؤكّد أن عدد مَشَاهد العنف المعروضة على شاشة التلفزة «ازداد بنسبة 40 بالمئة، بين عامي 1993 و1994».
هذا حاصلٌ قبل نحو ربع قرن. إلقاء نظرة على الأحوال الداخلية للولايات المتحدة الأميركية، في اجتماعها واقتصادها وإعلامها ومسالك ناسها في الداخل والخارج، كفيلٌ بتبيان حجم التحوّل الخطر في العيش اليوميّ. كفيلٌ بالتنبّه إلى كيفية تنامي ظاهرة العنف المتنوّع، وازدياد جرائم القتل بأسلحة فردية، في المدارس وخارجها.
من جهته، يؤكّد جون واترز (1946)، مخرج «الأم القاتلة» (1994، تمثيل كاتلين تيرنر)، ما يقوله ستون: «ليست المشكلة مشكلة سينما، بل مشكلة أجهزة إعلام»، فالمسؤولية «تقع، أولاً وأخيرًا، على الصحافة غير المسؤولة، المقروءة والمرئية والمسموعة». يُذكِّر ستون الجميع بـ»الصحافة الشعبية»، التي «تغزو المجتمعات كلّها، وتتفنّن في تقديم كلّ ما هو مثير، إلى درجة الكذب». يستعيد تجربة «ج. ف. ك.» (1991): «بتحقيقي هذا الفيلم، أرغبُ في تصوير وقائع الحدث كما هو حقًا، وفي التأكيد على أن الحدث كارثة بالنسبة إلى بلدي. النتيجة؟ تصفني الصحافة بأني مكابر ومغرور، وبأني مهووس بالإعلان. هناك هستيريا جماعية في بلدي، تساعد الصحافة على استشرائها، وتتفنّن في استثارتها».
«قتلة بالولادة» لأولي
كوانتن تارانتينو (1963)، أحد أكثر السينمائيين إثارة لجدل حاد حول العنف السينمائي وتأثيراته الاجتماعية، يعترف بأنه يصنع أفلامًا عنيفة، «لأني أحبّ أفلام العنف». لكنه يردّ على منتقديه، الذين يقولون بتأثيرٍ سلبيّ لأفلامه على المجتمع، بأنه غير مسؤول عمّا يفعله الناس بعد مشاهدتهم لأفلامه: «المسؤولية الوحيدة التي أتحمّلها تكمن في صنعي شخصياتٍ حقيقية، إلى أبعد حدّ ممكن». يؤكّد، بالتالي، أن العنف «أحدُ أسوأ جوانب الحياة»، وأنه ـ في الأفلام ـ «هادئ».
لن يُحسم النقاش. إصرار منتقدي الأفلام على تأثيراتها السلبية في المجتمع، يُقابله تحليلٌ صائب وحيوي وواقعي لأحوال البلد وناسه، يُناقض تلك «النظرية». السينما الأميركية غير متمكّنة من التفوّق على ما يعتمل في المجتمع الأميركي من عنفٍ. هناك من يرى أن المجتمع الأميركي سابقٌ على الفنون في «خرق المحرّمات»، ومنها «محرّم العنف». إجراء مقارنة بين عنف الأفلام التي يصنعها مخرجون سود، أمثال جون سينغلتن (1968)، وسبايك لي (1957)، والعنف المجتمعي الذي يتعرّض له السود في ولايات أميركية مختلفة، يؤدّي إلى تبيان واقعٍ مزرٍ: شاشات التلفزة «تتألّق» في كيفية نقل مشهد واقعي جدًا لرجال شرطة بيض، ينهالون بالضرب العنيف على سائق أسود، إلى ملايين المشاهدين؛ و»تتألّق» بكيفية «تصوير» محاكمات متعلّقة بجرائم قتل فردية، أو بحالات اضطهاد وعنصرية داخل الولايات المتحدة الأميركية، إزاء أقليات أو نساء: «تُرى، أفليس هذا كلّه أعنف ـ ألف مرة ـ من كلّ ما تُقدّمه السينما؟» (الناقد السينمائي الأميركي ستيفن كلاين).
إذًا، السؤال مرتبط بالمجتمع وإفرازاته، وبآلية عمل الإعلام (المرئيّ بشكل أساسي)، وبالفرد وبنائه النفسي والروحي والمعرفي، وبالبيئات ـ الصغيرة والكبيرة ـ التي يُقيم فيها، فيتفاعل معها، وبالمسالك المختلفة التي تُفرَض عليه. لن تتغاضى السينما عن هذا كلّه، فتحوّلها، بلغتها الجمالية، إلى متتاليات بصرية تكشف وتفضح وتقول وتُعرِّي. من يتأثّر بمشاهد سينمائية، فيمارس عنفه على أناسٍ وممتلكات، مُصابٌ بارتباك نفسي أو اضطراب سلوكيّ، يُمكن لمَشَاهد كهذه أن تُثيرها، فتساهم في إطلاق العنان لها، لكنها لن تكون مسؤولة، البتّة، عن تكوينها أو تشكيلها أو تحريض صاحبها، هي وحدها، على أفعالٍ عنفية.
أرقام و.. مصائب
أقوالٌ كثيرة يُمكن الركون إليها لتبيان انعدام المسؤولية الكاملة للسينما عن عنف المجتمع.
الفرنسي جيرار ميلر (طبيب نفسي وكاتب ومخرج، 1948)، يقول إن «الأفلام العنيفة التي تتحدّثون عنها غير هابطة من علٍ، ولا هي عشبة شيطانية نابعة كالفطر. إنها تُصوِّر عواطف وأهواء غير غريبة عنّا. ازدياد عدد أفلام العنف ناتجٌ من كون الروابط الاجتماعية تُصبح شديدة الهشاشة». لكن، هل تجعل الأفلامُ العنفَ عاديًّا ويوميًّا؟ يُجيب ميلر: «لكن العنف عادي ويومي»، مشيرًا إلى أنه «في كلّ مرة يعيش الناس بعضهم مع البعض الآخر، من دون أن يسعى كل واحد منهم إلى تدمير الآخر، يتعيّن علينا (حينها) أن نتساءل عن كُنْه المعجزة التي جعلت هذا الأمر ممكنًا» (المجلة الأسبوعية العربية «الوسط»، 16 يناير/ كانون الثاني 1995).
بعض الأرقام مذهلة: عام 2017، مثلاً، هناك 135 يومًا فقط من دون قتلى بسبب أعمال عنفية، في الولايات المتحدّة الأميركية، كما تشير إحصائيات مختلفة. المخرج الوثائقي الأميركي مايكل مور (1954)، يقول إن هناك 24 أميركيًا يُقتلون يوميًا: «رقمٌ يجعل الولايات المتحدّة الأميركية مسؤولة عن أكثر من 80 بالمئة من القتلى، الذين يسقطون ضحايا إطلاق النار من أسلحة فردية، في 23 بلدًا، هي الأغنى في العالم». يُكمِل تعليقه، ساخرًا من أولئك الذين يتّهمون الأفلام وألعاب الفيديو العنيفة بالمسؤولية عن انتشار القتل والعنف: «إنهم ينسون أن اليابانيين هم أكثر الناس استخدامًا لألعاب الفيديو تلك، في حين أن هناك أقلّ من 20 يابانيًّا يُقتَلون بأسلحة فردية سنويًا، أي أقلّ من الـ40 شخصًا الذين يُقتلون، بالطريقة نفسها، في بريطانيا العظمى».
«القتل الأميركي»، بالنسبة إلى مايكل مور، «طريقتنا في حلّ مشاكلنا التي تُخيفنا».
مايكل مور
يبقى النزاع قائمًا بين صانعي السينما ومنتقدي أفلامهم. لكن الكمّ الهائل من مشاهد العنف، المنقولة عبر شاشات التلفزة يوميًا، في المجالات الحياتية كلّها، الذي يجعل السينما أخفّ حدّة في التقاطها نبض العنف الواقعي، لن يُقنِع المنتقدين بالمسؤولية الفعلية لتفشّي العنف في المجتمع. نزاعٌ يبدو أن سينمائيين أصيلين غير مكترثين به، ومحلّلين اجتماعيين ونفسيين وتربويين غير مهتمّين به، لقناعات لديهم بأن السبب كامنٌ في مكان آخر: «البارانويا لدى الكائنات الناطقة (أي نحن) بدائية، أما العنف فمتجذّر وأصيل» (جيرار ميلر).