أحلام يوسف
يقول الرسام الشهير بابلو بيكاسو: «نعرف جميعاً أن الفن ليس الحقيقة، إنه كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة». قد يجد البعض ان بين ثنايا تلك الجملة متناقضات جلية، لكننا نجد ان الكذبة التي يمكن ان ندرك الحقيقة من خلالها هي تشكيل ما نطمح اليه، او ما قد يجسده الفنان بألوان، تفتقر اليها الصورة الحقيقية في بعض الاحيان.
الفن ومنذ الازل تجسد بأكثر من صورة، فكان لغة التواصل والحوار بين البشر، وحتى عندما تعارف الانسان على لغته اللسانية، صار للفن أهمية أخرى تمثلت في تدوين تاريخ الأمم من خلال رسم الحرف، ورسم الاحداث على الجدران وعلى الرقم الطينية، وقد تعرفنا على بعض الآلات الموسيقية والأسلحة التي كان يستعملها منذ القدم.
وحتى بعض العادات التي اتبعتها حضارات متباينة تعرفنا عليها من تلك الرسوم.
يطرح الكاتب والناقد الادبي البرتغالي فرناندو بيسوا سؤالا ويجيب عليه اذ يقول «لماذا الفن بهذا الجمال؟ لأنه لا غاية من ورائه، ولماذا الحياة بهذا القُّبح؟ لأنها مليئة بالغايات والأغراض والأهداف». لكننا نجد ان للفن غاية، الفرق في طبيعة تلك الغايات، فغاية الفن هو الامتاع وإشاعة الجمال في كل زاوية تمر عليها ريشة فنان، او كلمة في حكاية، او جملة موسيقية، وللفن وظيفة تتمثل في بلوغ الغاية. ومن هنا تتعدد فيه الأشياء، شيء يزيح ما امامه من حزن او وجع او قلق ليحل بعده الهدوء، وآخر يعصف بهدوئك وروحك المستقرة، ليرمي بها الى سؤال ربما تبحث في اجابته عن ما يبدد القلق.
اكثر من هذا، نوَّعَ تنوع الفن الوظائف، وكذلك الغايات، والأحلى انه نوع الآراء، والرؤى، نيتشة مثلا يختلف مع بيكاسو تماما في رؤيته للفن، لكنه في الوقت نفسه يتعارض مع بيسوا، فالفن عنده هو النشاط الميتافيزيقي بامتياز، لإن الفن صنع للمظاهر (Apparences). والمظهر عند نيتشه ليس تمثيلا للحياة، بل هو الحياة. المظهر هو الحقيقة لأنها لا يمكن أن تقوم سوى كمظهر. ليس المظهر زيفا أو وهما أو ظلا للحقيقة كما يزعم أفلاطون الذي أقصى الشعراء من جمهوريته.
ويتفق مع نيتشة هيدغر الى حد ما، فالفن عنده انكشاف لحقيقة الوجود، وترك الوجود يوجد، وتحويل الاختفاء إلى تحجب.
إن ماهية الفن هي ما يجعل الوجود يظهر، والحقيقة تلتمع وتسطع. إذا كانت ماهية الفن هي ترك الوجود يوجد، والحقيقة تستطع، فهذا لا يعني قطعا مطابقة الواقع ومحاكاته.
لا ينبغي البحث عن حقيقة الفن خارج الفن، أي في الواقع. إن حقيقة الفن ترقد داخله، أي داخل حضوره وانفتاحه، لأن الفن انبجاس وظهور لعالم هو عالمه ولحقيقة هي حقيقته.
ولعل من المفارقة الكبيرة هنا، ان أيا من هؤلاء الكبار الذين استشهدنا بهم، لم يخطيء، لأنه قال حقيقة أراد له الفن قولها.