يشيع مصطلح (تعدد الأصوات) في النقد العربي، والمصطلح الأجنبي (البوليفونية)، الذي هو أصل المصطلح العربي حسب المختصين، لكن المصطلحين يفتقدان الدقة في الإجراء النقدي، كما سيتضح لاحقا، وربما يكون الحرص على استخدام (البوليفونية) لجمالية اللفظ.
مصطلح (البوليفونية) المستعار من الموسيقى، والذي يعني عزف آلات متعددة في وقت واحد، يتعذر استخدامه في النقد الروائي؛ فلا يمكن أبدا كتابة حكي أكثر من شخص في وقت واحد، وحين يحصل ذلك شفاهيا فإن التلقي يضطرب وربما ينعدم.
تكمن مشكلة مصطلح (تعدد الأصوات) في تعدد دلالاته، فالمفترض أن يكون لكل مصطلح دلالة واحدة؛ لكي يصل المفهوم الى المتلقي بوضوح، اذ يقصد بـ (تعدد الأصوات): تعدد الرواة وتعدد وجهات النظر وتعدد اللغات وتعدد الشخصيات، مجتمعة ومنفردة، وثمة رؤية نقدية شائعة لا ترى (تعدد الأصوات) إلا تعدد وجهات النظر، فتثير سؤالا.. لماذا لا تسمى تعدد وجهات نظر؟
أما (تعدد الرواة) فهو مصطلح محدد الدلالة، يقصد به وجود أكثر من راوٍ في النص السردي، يتناوب حكي الأحداث، وثمة طريقتان – هما الأكثر استخداما – لتعدد الرواة أولاهما أن يحكي الرواة أحداثا اشتركوا فيها، يعيد كل راو الحدث؛ فينتج عن ذلك – افتراضا – تعدد في اللغة وتعدد في رؤية الحدث، تعبر عن مواقف شخصية وفكرية وآنية وغيرها، والأخرى أن يكمل التالي الذي قبله وهكذا، وهذه الطريقة ربما لا تستدعي وجود أكثر من راو.
قد يكون السبب في هذا الالتباس هو الترجمة، ومع الإقرار بالفضل والتقدير للمترجمين، فإن اختلافات الترجمة ظاهرة معروفة في كل أقسام المعرفة ومنها النقد الأدبي، وثمة مترادفات لمصطلحات مترجمة كثيرة، تتعلق بالأصول المترجم عنها، وعن اللغة الوسيطة، وأيضا تتعلق برؤية المترجم.
وفي حالة مصطلح (تعدد الأصوات)، فمن الشائع انه من اجتراح المنظر الروسي باختين، ودخل الى النقد العربي بواسطة الترجمة، عن الروسية مرة، وعن الفرنسية أكثر من مرة، وقد تكون دلالته – عند مراجعة ترجمات باختين المتعددة، وكتبه – متعلقة باللغة، إذ يرى باختين ضرورة كون لغة الراوي حيادية، وعدم استخدامه لغة أدبية شعرية مثلا، وضرورة عدم حكي شخوص الرواية بلغة واحدة، هكذا نفهم ان التعددية لدى باختين لا تخص الراوي، بل تخص الشخصيات، فيؤكد على ضرورة اختلاف لغاتهم باختلاف بيئاتهم الحرفية والمعرفية والاجتماعية والفكرية، لغة الراوي حسب باختين حيادية، مثل عين الكاميرا، ولغات الشخوص متعددة باختلافاتهم الكثيرة، فضلا عن كون باختين ناقدا أسلوبيا لا ناقدا سرديا.
في هذه المنطقة توجد أكثر من تعددية، يتم الجمع بينها وتعميم المصطلح على دلالات مختلفة، لكل منها شأن، فمن المعروف أن الشخوص في النص السردي متعددون ومختلفون، ومن الضروري أن تكون لهم لغات متعددة، وأيضا يفترض أن تكون لهم آراء ومواقف مختلفة، ومتناقضة أحيانا، من الأفكار والأحداث والأشياء، صغيرها وكبيرها، وهذه حالة إنسانية معروفة، إذن يفترض توفر التعددية في اللغات ووجهات النظر في كل النصوص السردية، وهو ما لا يتحقق غالبا، أما (تعدد الرواة) فلا يفترض وجوده في كل نص سردي، إنما هو طريقة من طرائق الكتابة، قد يعمد اليها المؤلف السردي أحيانا، لأسباب يراها هو مناسبة.
(تعدد الرواة) الأكثر دقة
انتهاء صلاحية مصطلح (تعدد الأصوات)
التعليقات مغلقة