ساطع الجميلي
يقول الناقد عزرا باوند «لا تستعمل أية كلمة غير ضرورية ولا أية صفة لا تكشف عن شيء ما، لا تستعمل تعبيراً مثل أراضي السلم المظلمة قليلاً، فهي تحيل الصور باهتة وتخلط بين المجرد والملموس، وتتأتى عن عدم إدراك الكاتب أن الشيء الطبيعي هو رمز مناسب دائماً».
أنمار مردان شاعر من مدينة الحلة، التحق بمدرسة الشعر منذ سنوات ليرتقي عالمه ويصبح واحداً من الشباب الواعد إبداعاً في القصيدة الشعرية، وعن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة صدرت مجموعته الشعرية (متى يكون الموت هامشاً) بطبعتها الثانية، أعدت قراءة المجموعة مرتين وآثرت تقديم خلاصة نتجت عن ذلك.
الحرب عند رمق الثلج قصيدة في ص 17
يذكر الشاعر الحرب على أنها ليست صراعاً بين قوى خير وشر فحسب، بل أنها فرصة ترسخ المتغيرات السلبية للآثام نحو التدني الحياتي بسبب النتائج المترتبة بعد أن تضع أوزارها، فكان أن صوّر الحرب عاهرة خارج دائرة القداسة لدهاقنة الصراع المدعين، وهذه العاهرة تغلغلت في أعماق الروح وجوهر الأشياء فلا ضير من أن تتشبه بذلك، يقول الشاعر
الحربُ تُنجب بإفراط متسع
تترجّل نحو الذنوب الساطعة ببياض أفواههم
الحربُ قزمٌ أصلع يزداد كرشُه سبايا
ويضيف أيضاً؛
بعد ولادة حربٍ جديدة
عليكم بالصمت
لأني سأزرع الشمس بفمي القاحل عن أخطائهم
وأمضغ ذاكرتي على أكمل وجه
وأتوسد لحظة الله الغافلة عن طيشكم
استنطق الشاعر الحربَ بكل جوانبها المأساوية موارية الحق وقواه إلى حيث المجهول، فعلى الآخرين العزلة والانفصام، هذا والقصيدة لا تخلو من الرموز والإيماءات التي لا تنكشف مدلولاتها سمعياً .
قصيدة « تقاسيم الظل الموحش ص 23
نستطيع أن نلحظ أن ثمة فوضى افتراض واسع ينشرها الشاعر مختصراً تعابيره الشعرية الرمزية بلغة انعكاس ذاتية وتوظيف مفردات محسوسة مختلفة الاستخدام متناقضة الأشكال، نلحظ هنا تغريدة البرد ـ أوجاع الرصيف، رأس فاس ـ الكرسي الذي سلخ نفسه تابوتاً، القمر عملة نقدية مفقودة المنشأ، وصولاً إلى إعطائه المتلقي استراحة من خلال مفاهيم جديدة دخلت النص ؛ الحانات / الألوان / السكائر / المساحات / … إلخ
التناص كان له حصة في القصيدة ، يتضح ذلك في جملة ؛ « أنا غاية في نفس يعقوب، والمفارقة كان لها دور أيضاً ؛ « الفحم يزدحم هنا، يقرنص الوقت بالبياض .
ما يعزز فرص الجمال كونها عناصر داخلة في جوهر القصيدة وشكلها، حين يكون الياء شعوراً ص 27، إحدى قصائد المجموعة المعبرة عن الوجدان العالي وانعكاساته، إنه أي الشاعر يوجه خطابه إليها أي الرمز ومدلولاته بعد أن وصل مرحلة الانصهار والغليان العقلي محولاً إياه إلى شعر ؛
يا من تحملت رعونتي، التمسك شعراً
يا من لا عقاب لديها، أنا رجلٌ مخمورٌ مخمورٌ مخمورٌ بأنوثتك
لكني أعجز أن أرسم شبحاً في مرفأ أنثى
لا تعرف أين شيبتها المفقودة
هنا الصور التعبيرية قادها الانزياح اللغوي إلى حضرة الشعر مجسدة قمة الشعور والإحساس منصهراً لديه، في القصيدة ذاتها يقول الشاعر؛
يا من لا نخلة لها
يا لي من نخلةٍ، اتعطش لشرود أي ظل
وأزدحم في لعنة سبورة محنطة
ليت ما فيكِ في رأيي، حتى أحتكم إلى الخلود في شهوة عارمة .
التعبير على أساس الوعي بوصفه فناً ؛
إذْ وظف الشاعر الفن برمته ومن البديهي أن يتحول الشاعر في غفلة زمن مضطرب أو مشوش وهو مسترسل في الكتابة، فيتحرك نحو صوره المباشرة التي تنتعش في الصورة التعبيرية المائلة إلى الإفراط العاطفي، وفي ذلك يقول؛
يامن لا غرور فيها، أنا مخيلة الصقيع
الأميالُ تتثاب في رأسي، الوقت لدي عملية إنجابٍ لزمنٍ يأكل أحشاءه
كلما نزعتُ شمعة ثغرها … إلخ .
قصيدة مترو ص 40، وقد ثبتها الشاعر بالإنكليزية كون المفردة غير عربية، يخرج الشاعر من مرحلة التشوش والإضطراب الفردي إلى الجمعي أو المجتمعي ليستعرض نمط التوزيع العادل لمسيرة الفوضى والعبث الذي ينال ويضرب منظومة الظرف والتفاعل المجتمعي ويحيلها إلى معايير فساد مشرعنة ضمن دائرة العبث آنفة الذكر، وفي نهاية القصيدة يفقد الأمل تماماً بعودة الضوء في نهاية النفق، وفي ذلك يقول ؛
لا تقطعوا شبابيك أسلافنا بالعويل
ولا أقلامنا حين تجف وتعلن موتها بسوء نوم
فالرحيلُ عن أخطائنا بشرى لشيطانٍ آخر .
في ص 43 (نصوص ملوّثة جداً) وهو عنوان لافت يندر أن يستعمله شاعر، وقد استخدم الشاعر آلية نصوص الومضة، وهذا النمط من الكتابة انتشر بعد صعود قصيدة النثر، مع ضرورة الانتباه إلى أنه ليست كل قصيدة قصيرة هي ومضة، فهناك محددات أخرى غير القصر يشترط وجودها في هذا النوع من الكتابة، وتعرف قصيدة الومضة بأنها قصيدة الدفقة الشعورية التي تقوم على أساس فكرة واحدة تتسم بالاختزالية ووظيفة الشعر الجوهرية فيها تمر عبر الاهتمام بالتفاصيل المهمشة والصغيرة ورصد دقائق الأشياء المحيطة بنا وإحداث علاقات بين المفردات من خلال العمل من داخل اللغة، يقول الشاعر في واحدة من هذه الومضات ؛
البارحةَ كلُّ المدن التي رسمتُها
أصبحت ظلي
إلا رأسي المقطوع !
أرى أن هذه القصيدة قد خلت من الاحتفاء بالأشياء وعدم وجود أي تفاصيل داخل المتن، وربما من اليسير أن نفهم أن أحد سمات قصيدة الومضة أنها تجنح نحو أسلوب القصة القصيرة جداً .
قصيدة أخرى ضمن ذات الاتجاه بعنوان (طفل الانفجار) احتوت حواراً لحدث هو أشبه بقيامة المراثي وقد نبع بصوت بالغ حد الخروج عن المألوف والانحاء باللائمة على المقدس، لقد احتوت الكلمات القليلة جداً على حرارة التعبير ودقة التصوير عندما قال الشاعر ؛
على تعتب على عزرائيل
في هذا السجود العميق
ولا تكتب أيَّ شيءٍ لمعلمتك الخائفة
فأنت الآن يا صغيري بعمر العاشرة إلا ربعاً بتوقيت الله
ختاماً نقول، إن قصائد المجموعة قد أدت دورها وصوتها الطبيعي في التأثير ضمن المشهد الشعري والأدبي وقد أتقن الشاعر فن الجهد على وجهٍ دقيق وأجاد الأداء التعبيري المعزز بالعاطفة والخيال والإنتقالة بين أغراض الشعر والثقة بطرح بطرح القصائد ذات الملمح الجريء .