ما يحصل مع كركوك من تطورات وأحداث، يعكس نوع السياسات والقرارات البعيدة عن الحكمة والمسؤولية في التعاطي مع هذا الملف المزمن والمعقد، الذي زادته الخطابات المتشجنة لـ (صقور الهويات القاتلة) تعقيداً. قضية كركوك لا تختلف كثيراً عما يواجهه العراق من مخاطر وتحديات، برهنت التجربة على عقم حلها عن طريق الحرب وإلحاق الهزيمة بالطرف “الآخر”، أو استثمار فرصة ضعف “الآخر” لانتزاع المزيد من المكتسبات السياسية والجغرافية، كما حصل مراراً في تأريخنا الحديث، ما قبل “التغيير” ربيع العام 2003 وبعده. لقد مثلت سياسة إقليم كوردستان في التعاطي مع ظهور خطر داعش في حزيران من العام 2014؛ امتداداً لذلك النهج العقيم، عندما أعلن السيد مسعود البرزاني عن ولادة خارطة جيوسياسية جديدة للعراق بعد ذلك التأريخ المشؤوم، وكأن لسان حاله يقول (ربّ ضارة نافعة). ومن الأهمية بمكان الإشارة الى أن غالبية أطراف العملية السياسية الراهنة، يعتمدون مثل هذا المنهج والسلوك في التعاطي مع الأحداث والتطورات، إذ لا يبرعون بشيء أكثر من فن إعاقة بعضهم للبعض الآخر، وما محاولات البعض من حيتان المشهد الراهن، للظهور بمظهر حمامة السلام ودعاة للتقارب والحوار، فلا يمكن لها أن تثير سوى السخرية والأسى، لأن مثل تلك النشاطات لا تنسجم ومواهبهم التي تعرفنا عليها طوال أكثر من 14 عاماً من ماراثون المحاصصة الإثنية والطائفية.
هذه الخلطة العجيبة من الأحزاب والجماعات والكتل، ذات الزعامات المزمنة والمجربة زمن النظام المباد وبعده، لا تستحق منحها أدنى فرصة للاختبار، إذ لم تجلب لسكان هذا الوطن القديم غير المزيد من الكوارث والمحن، وهي جميعها في بغداد وأربيل لم تصل الى ما هي عليه الآن لولا المشرط الخارجي والغوث العابر للمحيطات الذي استأصل لنا النظام المباد. هذه الطبقة السياسية من دون تمييز على أساس مفردة الدمار الشامل “المكونات” لا تجيد إلا صناعة الفشل والمزيد من الفشل في التعاطي مع هموم وتحديات عصرنا الواقعية والعابرة لهلوسات “المكونات” والعقائد العنصرية والطائفية والآيديولوجية الضيقة. طبقة سياسية لم تستقطب الى صفوفها غير اللصوص والمتجحفلين معهم بشراهة وغيبوبة وضيق أفق، في الوقت الذي ارتقت فيه أمم ومجتمعات الى ذرى لم تتخيلها من قبل، بفعل تحررها وانعتاقها من مثل هذه الفضلات المتورمة على تضاريس مضاربنا المنكوبة.
إنهم جميعاً (عربا وكورداً وتركمانا، سنة وشيعة وبقية الملل..) وكل من يتنطع لتمثيل “المكونات” سيبقون يدورون في حدود شرنقاتهم الضيقة، وما يعصف داخلها من مناخات كراهة الآخر وشيطنته، والتي انتعشت مؤخراً بفعل ازدهار سوق “صقورها” و “غربانها” المعتاشون على مثل هذه الأوضاع الشاذة. إن ملف (كركوك) كما غيره من الملفات والأضابير التي أورثتنا إياها الأنظمة السابقة، ستظل تتنتظر قوى وخطابات وعقول أقل خضوعاً لسطوة “الرسائل الخالدة” وقيم الغنيمة والفرهود، وأكثر ميلاً للانتصار لقضايا الإنسان وحقوقه وحرياته من دون تمييز على أساس الرطانة والهلوسات والأزياء. وهذا ما لا تجيده ولا تطيقه هذه الطبقة السياسية، التي تفتخر بوصفها ممثلة لـ “المكونات” وكل أشكال الكانتونات والأشكال المبتكرة لمتاريس التشرذم، في عالم حولته حاجات العصر ومدوناته الحداثوية الى قرية كونية تزداد تراصاً..
جمال جصاني
هذا ما يجيدونه
التعليقات مغلقة