الإفصاح السردي والتمثّل الافتراضي في القصة القصيرة
(4-4)
عبد علي حسن
حدا بالقاص أن يجمعهن في حافلة باتجاه ( يوتيبيا) تعد خلاصاً من الوضع الذي يعانين منه على الصعيد الأخلاقي والنفسي والجسدي ،ولتحديد وجهة الحافلة يشير منظم الرحلة ( في دياري ستكون البداية ، كما كانت في الأول ، لقد توالد البشر من أمنا الأولى هناك ….النص ص96) اذ أن هنالك حل لكل المعاناة ( سنعود الى أحضان الطبيعة ، هي أحنُّ علينا مما جرى، لم تعد ثمة مندوحة من السفر … النص 96 )..
وتتبدى هنا وجهة نظر النص في أن ما يجري هو من صنع البشر وهو سبب لكل هذه المعاناة بفعل الاحتراب …والأنانية وحب الجاه والشهوة غير المشروعة وإزاء هذا الواقع المنهك للوجود الإنساني يؤكد النص إن الطبيعة (آمنا) هي الحضن الوحيد الخالي من كل أنواع الاضطهاد والقهر ليعيش الإنسان بمنأى عن الخراب الخارجي والداخلي ، ويتضح اهتمام القاص بالوضع السلبي للمرأة في المجتمع ألذكوري (البطرياركي) حيث تعاني المرأة من اضطهاد مزدوج داخلي وخارجي ، فقد اطلع المتلقي على هذا الوضع في القصص ألاثني عشر التي كانت شخصياتها المركزية هي المرأة ووقوعها تحت طائلة ما يعتمل في البنية الاجتماعية من قهر واستلاب فضلا عن تبيان اثر الحرب الداخلية منذ عام 2003 على المرأة جسديا كما في القصص المختارة للتحليل (استبدال ، أسرار ، إذن من طين ، بيت جني ) وكذا في القصص الأخرى فالمعطيات الواقعية أفصح عنها السرد في هذه القصص لذلك أشار النص الأخير الى التلميح للمكون الشخصي ليحفز المتلقي على تذكر هذه الشخصية أو تلك وما عانته من وضع جعلها في منطقة الانتهاك مثل ( مدرسة الجغرافية ، فتاة الملجأ ، فتاة الرعاية الاجتماعية ، فتاة ، (زردالي) ، صانعة الأحلام ، فتاة الرغبات الملحة ، فتاة الشغف ، الصحفية المراسلة) ، بعد هذه الأسماء هي أسماء الشخصيات المركزية للقصة السالفة للمجموعة إلاّ أن النص الأخير يشير الى إضافات جديدة مستنتجة من أحداث القصص السابقة وشكلت هذه الإضافات تعزيزاً لمحاولات هؤلاء النسوة للخروج من الواقع الذي أسهم في إحباطهن وتكريس بنية الخراب والبحث عن دوافع قوية تحرّض الفتيات للرحيل فان القاص عمدَ الى تخليق حدث تعرّض مدينته بغداد لحريق شامل يأتي على جميع الأحياء والأماكن تباعاً بفعل عدوى الحريق ،.
وتتكفل فكرة الرحيل مدرسة الجغرافية ( لم تواجه مشكلة ما في إقناعهن بالرحلة ، فالكل كان متفقاً على أهميتها وانه لم تعد ثمة فرصة للبقاء ( أو التشبث بفكرة وقف الحرائق النص ص 99)..
وإزاء هكذا وضع يتفق الجميع على الرحلة خارج حدود الوقائع التي مرّت بالفتيات بطلات القصص السالفة اللائي وجدن في هذه الرحلة الخلاص والأمل بالوصول الى الجنة ، وكثيراً ما كان السائق الأرمنى للحافلة يمنى الفتيات بالمكان اليوتوبيا ( اسمعن جيداً ستبدأ الرحلة الآن سننطلق صوب جنة لم يطأها شيطان ، فيها قطوف دانية ، فاكهة من كل لون وما ( تشتهون ) … النص ص 102 ) وبقطع النظر عن إمكانية تحقيق الوصول الى مثل هذا المكان فأن الفتيات وبدافع ما هن فيه من خور وإحباط وانتهاك لم يجدن فرصة للاختيار ولم يكن أمامهن غير هذا الحل الذي افترضته مدرسة الجغرافية ولاقى قبولاً حسناً عند جميع الفتيات ، وإزاء هذا التأكيد من قبل السائق الأرمنى على الوصول الى الجنة المرتقبة فأن الفتيات يجدن في الرحلة اغتسالاً من الأدران في بحيرة (وان) واستعداداً للدخول في منطقة السهول الفسيحة والقطوف الدانية … للخلاص من بغداد وحرائقها وكل وسائل الانتهاك التي تعرضن لها .( سنغتسل من الأدران .. حالما نصل الى البحيرة …. النص ص 103)..
لقد كان الطريق محطة لمراجعة ما مضى وما عانت منه الفتيات وعشن عوامل قهرهن الوجودي والجسدي والنفسي والأخلاقي من خلال ر أغنية الراحل ناظم الغزالي ( يا حادي العيس عرّج كي أودعهم ….) التي بثها السائق الارمني عبر راديو الحافلة …( في داخلهن ثمة رغبة عارمة بإحراق ما مرَّ من شواهد وأحداث وإيقونات وأشخاص ورموز ، بمعول خفي ، من ذهب خالص ، قطرته أرواحهن ، رحن يهدمن ما مضى …. النص ص 103)..
إلا أن النص في نهاية القصة لم يشر الى منطقة وصول الحافلة وأي طريق سلكت واعتمد أربعة تقارير بعثتها الصحفية المراسلة وهي واحدة من شخصيات الحافلة … الى وكالة الأنباء التي تعمل لها … ووضعتها تحت عنوان واحد ( في البدء) ولعل الفضاء الدلالي لهذا العنوان يشير الى التوافق بين هدف الرحلة وعنوان القصة (في البدء) للإشارة الى البداية الصحيحة التي تتمنى الفتيات أن يبدأنها لحياتهن القادمة الخالية من أخوان الشيطان ، الخالية من أي انتهاك وللخروج من منطقة الانفعال أو الركون كلياً الى الافتراض السردي المتخيّل الثاني فإن القاص يعمد في السطور الأخيرة الى إثارة الشك في هذه التقارير الأربعة ، لما تضمنه من تناقض واضح … مما سلف نلاحظ أن هذه القصة قد أفضت عن مصائر الشخصيات المركزية لقصص المجموعة وكلهن من النساء – للكشف عن المعاناة المزدوجة للمرأة العراقية وفق معطيات الواقع المنتهك منذ 2003 ولحد الآن ، ويأتي الحدث الافتراضي لقيام رحلة هؤلاء الفتيات باتجاه المكان اليوتوبيا للخلاص من الواقع المُر ….
( من نتف الجمل المبثوثة بشكل مشوّه في التقرير وبعملية استقرائية يتضح أن الحافلة كانت على وشك تجاوز بحيرة (ساوة) وان ( وادي الدلتا) صار قاب قوسين أو أدنى من نهاية الرحلة … النص ص 105) ويبدو أن هدف هذه القصة هو تكريس رغبة وتوق الفتيات الخروج من منطقة الوقائع المُرّةَ … دون أن تعرف نقطة وصول الحافلة وفيما إذا تحقق هدف لهذه الرحلة …ليؤكد النص عدم إمكانية الخروج من المأزق الوجودي والإنساني الذي تعاني منه جميع شخصيات قصص المجموعة .
استنتاجات
مما سلف من تحليل لنصوص القصص المختارة من مجموعة ( بيت جني ) للقاص حميد الربيعي نستنتج :
1. مثلت النصوص المختارة للتحليل الانتهاك الوجودي والاجتماعي والأخلاقي والنفسي والجسدي الذي تعرضت له الشخصيات المركزية – المرأة تحديداً.
2. نزوع النص الى أحداث تلازمية بنائية بين الإفصاح السردي بعدّه إبانة وكشف الوقائع المعاشة واستثمار معطياته في تأثيث التمثيل الافتراضي التخيّلي .
3. شكل الإفصاح بنية مركزية في محايثة الواقع واستثمار معطياته في تأثيث التمثيل الافتراضي الحائز على غرائبية وعجائبية اتصفت بالتبعيد لمنح النص وظيفته الفنية والأدبية.
4. عّد النص الإفصاح أسلوباً وتقنية جديدة يراد منه استدراج المتلقي الى النص الافتراضي الذي يعد النص المستبطن للظواهر الاجتماعية التي يعززها الواقع العراقي .
5. أن أغلب الشخصيات المركزية للقصص هي عناصر تسوية تكلف الراوي كلي العلم الإخبار عنها باستخدام ضمير الشخص الثالث ( هو) والبعض الآخر باستخدام ضمير المتكلم مما أتاح للمتلقي الاطلاع عن كثب لما تتعرض له المرأة العراقية في ظل المعطيات والظواهر التي أفرزها الواقع العراقي منذ 2003 ولحد الآن .
6- تضمن الإفصاح السردي على أسماء أمكنة وحوادث راكزة في الذاكرة الجمعية وشكلت مقدمات بنائية للوصول الى منطقة النص الافتراضي وفق تداخل سردي مؤثر على الصعيد الفني والفكري على حد سواء .
7. استخدام القاص في قصته الأخيرة ( في البدء) تقنية جديدة عبر جمع الشخصيات المركزية بعناوين القصص ذاتها في قصة واحدة مع احتفاظ كل قصة بالاكتفاء المضموني والفني كل على حده ، وقد شكلت هذه التقنية التي من الممكن تسميتها بـ ( قصة القصص) رؤية القاص الفكرية لتحديد المسار النهائي للشخصيات استثماراً لما آلت إليه نهاية القصص من دون أن بشعر المتلقي بعدم اكتمال السرد في القصص المنفردة اذ ان القصص قد حازت على تكاملية البناء والمضمون، إذ لم تكن مجريات القصة الأخيرة ( في البدء) استكمالاً بنائياً لأحداث القصص السابقة .