‏البساط الأخضر وتلاله الأثرية

الحرف الأول – الكتابة الصورية ثم الكتابة المسمارية
الحلقة السادسة
تواصل ثقافية الصباح الجديد نشر حلقات من كتاب: سرقة حضارة الطين والحجر للكاتب حميد الشمـري

تناولنا في الحلقة السابقة، دور سومر في انجاب الحضارة الاولى للبشرية، وكيف ان الانسان السومري، ابتكر الكتابة حتى يتواصل مع الحضارة لمواجهة التحديات التي تواجهه في حياته، فقرر اختراع الحرف في مدينة الوركاء.
‏كان التطور الحضاري للشعب الرافديني فكريا واجتماعيا وثقافيا وفنيا يسير في سياق التطور الطبيعي المتصل عبر التاريخ حيث كان مرتبطا بعناصر الماء والطين والزراعة والتجارة والفكر والفلسفة والاسطورة والدين والفن وهي الاعمدة الأساس في أركان الحضارة وجميعها كانت تسير متلازمة عبر درب واحد منذ البداية ولا يمكن فهم أو فصل أيا منها دون حساب العناصر الأخرى , وكان الدين هو مصدر الإلهام والوحي للفن غاطسا في الماء متطهرا فيه مستندا على كتف الطين في جميع المراحل الحضارية الرئيسة التي كانت مترعة مشبعة سكرى بالماء نائمة على فراشها الطيني مستقية بعض مقوماتها من حضارات بدانية سبقتها في الزمان والمكان وجميعها حضارات تستحق التقدير , وسرعان ما أخذت الحضارات الجديدة تعطي ثمارها الناضجة إلى المراحل التالية للتطور المتصل الطويل الأمد وتستلمها الاجيال جيلا عن جيل وبدأت جداولها بالامتزاج سويا و تجمعت لتكون نهرا هادرا عريضا هو حضارة بلاد الرافدين –
‏لقد احتوى الوادي على عدد هائل من التلال والمواقع الأثرية المنتشرة فيه بدءا من مرتفعاته الشمالية حيث نينوى والنمرود وخرسباد وهضابه وتلاله وسهوله الوسطى المتموجة حيث آشور وسر من رأى وسهوله ألجنوبية ألمنبسطة حيث دوركوريكالزو وبابل وبرس نمرود في الوسط وسهول سبار وأورو الوركاء وأريدو وتلو ونفر جنوبا , وجغرافيا كانت كل مساحة البساط ألأخضر من الأراضي المتموجة والسهلية ألمنبسطة الجنوبية التي تمثل ربع مساحة الوادي هي هبة من نهري دجلة والفرات حيث كانت ترسباتهما ترقد وهما يصبان منفصلين أو مجتمعين في الخليج , وبعد مرور مئات آلاف السنين أبدل النهران مساريهما عدة مرات ثم التقيا عند بداية الدلتا حاليا على بعد ( 130 ‏كلم) عن فم الخليج ليكونا هذا البساط الغريني من السهول الفيضية الرسوبية الخصيبة الخالية من المناطق الصعبة والوعرة . ولذلك فإن كل مرتفع غير طبيعي في هذه الأراضي لابد أن يكون تلا أثريا وكانت هذه التلال ذات خضرة دائمة ومزارع مثمرة وهي الآن تلال صحراوية قحلة منسية ونائمة حيث تغمرها الرمال.

‏تلال تلتحف الأرض
‏ان الكثير من هذه التلال المهجورة الآن هي بلا ملامح واضحة وكثيرا ما تكون ملتحفة الأرض ذائبة فيها وتخفي تحت ترابها مدنيات وحضارات عظيمة وهذا هو قدر مدن الطين أنها إلى الطين ترجع , حيث تتحول إلى كتل من الطين السائب اللزج عند أي غمر من فيض الماء أو بسبب المطر الثقيل أو الحريق أو تغيير النهرين الخالدين لمجريهما أو مجاري روافدهما ورواضعهما وفروعهما فتتغرين جدران هذه المدن وأسوارها وتذوب في الأرض , ويحدث غمر المياه هذا بسبب عدم العناية بكري الانهر وصيانتها وإهمال الإنسان السيطرة عليها لانشغاله بالحروب والغزوات والدفاعات والحصارات أو بسبب حدوث الأوبئة الكارثية وهجرة الناس من المدن او بسبب الفيضانات الموسمية التي تغرق الارض والانهار فتزداد رواسب الطمي ويؤدي ذلك إلى تغيير وابتعاد الأنهر عن مجاريها القديمة فتحفر لها أخاديد ومجار جديدة في وجه الأرض فتهجر المدن والمواقع الحضارية وتنهار أبنيتها وتتدثر بدثار من التراب والرمال لآلاف السنين إلى أن يأتي معول المنقب فيكشف عنها سترها فتبوح بأسرارها وينصت لها العالم ويتوقف عندها الزمن , فهذه المدن قد كتبت مع التاريخ عهدا وموعدا وأست الحضارة بين ركام أطلالها المبعثرة وخلدها الزمن فلا هو بالقادر على محوها ولا هو بالقابض عليها وعندما تستيقظ تكتب تاريخها الخالد خلود الطين وتطبع قبلة عرفان على جبين الأرض التي أنجبتها , وهكذا نجد أن مدن أريدو والوركاء وأور ونفر وتلو وسبار وبابل وآشور ونينوى وكلخ ودور شروكين والكوفة وبغداد وسر من راى كانت من أعظم مراكز الحضارة الإنسانية وقبل إندثارها كانت قد نقشت أسمانها بشكل ثابت وخالد على خارطة العالم الحضارية وسجلت دالتها على البشرية

حضارات متنوعة ومتجانسة
‏يحادد بلاد الرافدين منطقتان لهما دور قوي في مشاركة الوادي في بناء الحضارة السومرية , الأولى تقع شمال غربه وهي منطقة (ماري وتل براك في سوريا حاليا) والثانية تقع جنوب شرقه ( سوسه في إيران حاليا) , وكانت هاتان المنطقتان الملتحقتان من (الحضارات المساعدة – ستن لويد , فن الشرق الادنى القديم ) التي أسندت ‏دعائم الحضارة في بلاد الرافدين إلا أن الحدود السياسية الحديثة وبعيدا عن الجغرافيا والإرث والفعل الحضاري هي التي شكلت توزيع هذه ‏المناطق الاثرية إقليميا وسلخت بعض المواقع عن حضن أمها مثل ماري وتل براك وسوسه , حيث لم تضئ شمس سومر سهول ما بين النهرين حسب بل اضاءت كل وادي الرافدين والمناطق المحيطة بها . وقد تناوبت على بلاد الرافدين حضارات عظيمة كانت متساوية مع بعضها في الاهمية متجانسة في شكل عطانها الحضاري ولكل منها شكلها الفني الخاص الذي تميزت وابدعت فيه مثل الحضارات السومرية والأكدية والأمورية والآشورية والكلدانية والعربية . وترتبط جميعها بتسمية واحدة هي حضارة بلاد الرافدين حيث كانت الشعوب اللاحقة تختزن مظاهر حضارات الشعوب السابقة وتمزجها بعطائها وتخرجها مجددا كحضارة جديدة بإسلوبها العبقري المتميز . وكان التناغم والالتقاء‌ بين هذه ‏الحضارات يتسم احيانا بالانسجام الإرادي التلقائي مثلما حدث عندما أزاح العنصر الأكدى العنصر السومري وجودا وثقافة ليتصدر واجهة الحضارة , ومثلما انتهت الأزمة بين مدينتي الوركاء وكيش وفقا لديمقراطية ذلك العصر البدائية بعد توسط مدينة اخرى بينهما . أو بصراع الإرادات والقوى أحيانا مثلما حدث في حروب عصر فجر السلالات حيث تنازعت المدن والسلالات بقوة السلاح من اجل بسط السيطرة على منطقة جنوب الوادي اوفي عصر الاكتساح العربي المستند الى الرغبة في نشر الدين الاسلامي التوحيدي وكان كل ذلك يتم بوجود واستمرار التنوع في الشكل وسيادة الوحدة في الحضارة.

الهلال الخصيب
‏تمتد تأثيرات هذه الحضارة على كل جغرافية الهلال الخصب ( وهذه التسمية اطلقت من قبل العالم الآثاري الامريكي جيمس هنري برستد في ثلاثينيات القرن العشرين) . وتمثل مدن الحضارة السومرية الجزء الشمالي الشرقي منه , ومن غرب إيران والعراق وجنوب شرق تركيا إلى بلاد الشام وفلسطين فقد مرت جمع هذه المناطق بنفس الأدوار الحضارية القبتاريخية والتاريخية مثل العصر الحجري القديم (أكثر من مائة ألف سنة) والعصر الحجري المتوسط ( اكثر من عشرة آلاف سنة) ثم العصر الحجري الحديث (عشره آلاف سنة وانل ) ثم العصور الواقعة بين الألفين الثامن والسادس ق م وما بعدها والتي قسمت إلى الأدوار التالية
‏دور جرمو ( 7000 ‏ق م) / دور الصوان / دور حسونة / دور سامراء (الى نهاية الألف السادس ق م ) وحقبة اكتشاف المعادن ثم دور حلف (5500 ق م)/ دور أريدو / دور العبيد (تصغير العبد) ( 4500- 3800 ق م) / ثم الدور التاريخي / الوركاء ( 3800 ‏- 000 ‏ ق م ) وهو زمن بدء الكتابة / دور جمده نصر ( اقل من
3000 ‏ق م / ثم عصر فجر السلالات الذي تناوبت السيطرة فيه , خمس سلالات قوية , سلالة كيش الأولى , سلالة الوركاء , سلالة أور الأولى , سلالة لكش ( 2900 ‏إلى – 2350 ‏ل ‏ق م ) ثم السلالة الامورية الاولى ( 1850 ‏ق م / .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة